مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أحسن جوارك... تعمر دارك

 الشيخ حسن غبريس

إن لفظة الجار من الاستجارة وهي مفعمة بمعنى الرحمة. قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ (التوبة: 6) حتى أنه يقال للميت انتقل إلى جوار الله تعالى وهذا يدل ضمناً على أن العلاقة التي ينبغي أن تحكم الجيران هي الرحمة. والرحمة لا تعني تضييع الحقوق لأنها عين الحق وأيّ تضييع للحق يعني تضييعاً لها، ولهذا فإن موضوعنا يحتاج إلى التأمّل والتدقيق والحكمة. وبناءً عليه قسمناه إلى قسمين:

الأول: سنتناول فيه أهميّة الجار من باب المقدّمة المرتكزة إلى قواعد الرحمة من جهة كافّة الأطراف.

الثاني: سنبيّن فيه الحقوق والواجبات لعلاقة الأفراد والمؤثرة نتيجتُها في الأفعال والتصرفات.

*القسم الأول:

ويشمل أموراً كثيرة نذكر منها ثلاثة اختصاراً للموضوع.

1 - قيمة الجار وبركاته

عن الإمام الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله تبارك وتعالى إذا رأى أهل قرية قد أسرفوا في المعاصي وفيها ثلاثة نفر من المؤمنين ناداهم جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه: يا أهل معصيتي لولا من فيكم من المؤمنين المتحابين بجلالي، العامرين بصلاتهم أرضي ومساجدي، والمستغفرين بالأسحار خوفاً مني لأنزلت بكم عذابي ثم لا أبالي"1.

لقد جعل الله تعالى لبعض الأماكن أهميةً كالمساجد ونحوها، وكذلك لبعض الأزمنة كشهر رمضان وليلة القدر ونحو ذلك. وثبت أيضاً أهميّة وبركات بعض الأشخاص كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، فالمعيار في علوّ الشأن والمقام هو القرب من الله تبارك وتعالى، وأقل القرب ذكر الله فكيف بالمؤمن الذي يهلّل ويسبّح ويذكر الله كثيراً، ويحصّل بذلك مراتب القرب من الله تعالى، ويرفع الله ببركته الكثير من البلايا والرزايا؟

2 – الصّبر عليه

عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما أفلت المؤمن من واحدة من ثلاث ولربما اجتمعت عليه: إما بغضُ من يكون معه في الدار يغلق عليه بابه يؤذيه أو جار يؤذيه أو من في طريقه إلى حوائجه يؤذيه ولو أن مؤمناً على قلَّةِ جبل لبعث الله إليه شيطاناً يؤذيه ويجعل الله له من إيمانه أُنساً لا يستوحش معه إلى أحد"2.

يعني أنّ الإنسان معرّض في حركة حياته ودائرة معيشته إلى الاصطدام بالناس، ولهذا فقد يصطدم في أسرته بمن ينافره وأيضاً بين جيرانه وكذلك في سوقه وعمله، فإذا صرف همّه وجهده لهذه المنافرة يعيش في بوتقة الهموم والأحزان وقد يتسرّب الحقد إلى قلبه لأقرب الناس إليه من أهله وجيرانه وإخوانه فيبتعد عن الله والإنسانية ويعيش صراعاً هائماً لا يتجه معه إلى راحة واطمئنان، وبناء عليه ينبغي المسامحة وتدوير الزوايا والتخفيف من المسألة وعدم الالتفات كثيراً إلى تفاصيل يمكن التغاضي عنها وتجنّب بوائقها ومتاعبها.

3 – الإحسان لنفسه في الإحسان إليه

عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: "حسن الجوار يعمّر الديار ويزيد في الأعمار" 3.

إنّ سكون النفس وعدم اضطرابها وانشغالها في التفاصيل المتكثرة ينعكس حتماً على صحة البدن واستقرار النفس في العمل والإنتاج، وهذا معنى أن حسن الجوار يؤدي إلى طول العمر وكثرة الرزق، لأن المستقر نفسياً يكون أكثر هدوءاً واطمئناناً وكذلك يكون أكثر تركيزاً وإنتاجاً في عمله. وهذا يعكس أهمية المجاورة وضرورة اختيار الإنسان لمن يجاوره.

*القسم الثاني:

في الحقوق والواجبات "الحدود الشرعية" الأكثر ابتلاءً في المسألة هي المباني المتعدّدة الطوابق، ولهذا سنخصص موضوعنا في هذه الجهة، والحديث فيها يتجه إلى جهتين:


الجهة الأولى: من حيث المبنى

يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الخاص، القسم المشترك، والهيئة العامة للمبنى (الشكل الخارجي).

1 - القسم الخاص:

يشمل الشقّة من حدود الباب الخارجي إلى أطراف الشرفات، والحوائط من الداخل. في هذا القسم يحق للمالك التصرف بما يشاء ويراه مناسباً، كتغيير التقسيم، والغرف، وغير ذلك شرط أن لا يؤدي إلى ضرر على الجيران. وأن لا يكون مشروطاً عدم التغيير في الشقة حال الشراء.

2 – القسم المشترك:

ومعنى مشترك أنه يشترك في ملكيته كلّ مالكي المبنى. وهو يشمل عادة المدخل والدرج، والسطح، والمصعد، والموقف، والحديقة إن وجدت. فيحق لكل مالك التصرّف بملكه لكن ضمن حدود الاشتراك، بحيث لا يتعدّى على الآخرين. والقاعدة العامّة هي استعماله في الجهة المتفق عليها عرفاً. مثلاً، المدخل للجميع ولا يحق لأحد المالكين وضع أمتعة بشكل خارج عن المتعارف لا يرضى عنها المالكون الآخرون، وكذلك الدرج بحيث يضع غالونات المياه والأحذية وما شاكل مما قد يعيق أحياناً المرور أو يشوّه المنظر العام.

وأيضاً من المشتركات السطح، فلا يحق لأحد المالكين أن يجعله مكاناً لتربية الحمائم أو الدواجن دون إذن الآخرين، أو يجعله مكاناً خاصاً كالبناء عليه، أو وضع خيمة له خاصة بحيث يمنع الآخرين من الاستفادة من ملكهم، لأن وجه استعماله هو المنفعة العامة، وكذلك هو مسؤولية الجميع بحيث لو حصل نشّ أو ضرر على الطابق الأخير يجب على جميع مالكي السطح رفع الضرر عنه ولا يجوز التخلّف في الإصلاح فيجب على الجميع دفع بدل الصيانة عن ممتلكاتهم.

ومن المشتركات أيضاً المصعد، فيجب على كافّة مالكيه دفع بدل الصيانة والكهرباء وغير ذلك حتى الطابق الأول مثلاً كما لو استعمله الناطور لأجله أو المالك نفسه مرّة في الشهر ليكشف على خزان المياه في السطح أو لأي غرض آخر. فالعبرة في إمكانية الاستفادة منه كمن استأجر منزلاً، لم يستعمله فيجب عليه دفع الأجرة إلا إذا حصل مصالحة بينه وبين المالكين الآخرين. أما إذا لم يكن مالكاً فيحق للمالكين الآخرين منعه من استعماله في حال تخلّفه.

ومنها أيضاً الموقف، فقد يكون الموقف كافياً بحيث يكون لكل شقة موقف سيارة، وقد يكون لكل شقة موقفها المحدّد في السند. في حال التحديد لا إشكال في المسألة فلا يحق لأحد الوقوف بدل غيره إلا بإذنه وله أيضاً منعه. أما في حال عدم التحديد أو لم يكن كافياً لا يجوز لأحد المالكين أن يحدد موقفاً خاصاً به ويمنع الآخرين من الوقوف فيه دون رضا الجميع، ورضا بعضهم لا يكفي، كمن يقوم بوضع سلسلة ويحجز المكان وأحياناً نراها في الطرقات العامة وهذه أخطر لأنه قد يتعثر بها إنسان مارّ ليلاً أو تعيق حركة المرور فهو ضامن للضرّر الحاصل من فعله.

3 - الهيئة العامة للمبنى (الشكل الخارجي):

فيشمل الحوائط من الخارج وكل ما له دخل في المنظر العام للمبنى فلا يحق لأحد المالكين التصرّف بشيء يؤدي إلى تشويهه بحيث يحصل ضرر على الآخرين كما لو نقصت قيمة المبنى وينعكس ذلك على قيمة الشقة نتيجة التشوّهات الحاصلة فهو ضامن للنقص وعليه التعويض.


الجهة الثانية: من حيث العلاقة بين المالكين

وتشمل أموراً أهمها: المستحقّات الشهرية ولجنة البناية (قرار التصرّف بالمال) والمولّد شراءً واستخداماً. وهذه الجهة هي فرع عن الجهة الأولى لكن أفردناها لما لها من أهمية وانعكاس على مجمل العلاقة بين الجيران فتدخل ضمناً في المقدمة الأولى كذلك من باب مرتكزات الرحمة والمحبة.

أما المستحقات الشهرية: فقد ذكرنا أنه يجب على الجميع دفعها، بل حتى المستخدمين من غير المالكين (المستأجرين)، لكن يبقى الحديث في مسألتين:

الأولى: المبلغ المطلوب دفعه: فهو أمر يحدّد بناءً على الحاجات الفعلية عرفاً والزائد يحتاج إلى إذن الجميع.

الثانية: قرار التصرّف بالمال: ويعني أن قرار التصرّف هو بلا شك بيد الجميع دون استثناء ولا يجوز دون رضاهم، لكن ومن باب تنظيم الأمر يعمل على إنشاء ما يعرف بلجنة البناية وصلاحياتها تحدّد إما ضمن اتفاق فعلي أو إقراري بحيث يظهر رضا الجميع. أما ما لا يظهر فيه الرضا خاصة في الأمور غير المتعارفة عادة فلا بدّ من أخذ إذن الجميع كما لو أرادت اللجنة القيام ببعض الديكورات مثلاً.

وأما المولّد، فهو مرهون بكيفية الاتفاق عليه شراءً واستعمالاً، وغير ذلك، لكن ما يمكن قوله في المسألة هو كيفية استعماله بحيث لا يؤدي إلى إزعاج الجيران من صوت، أو ارتجاج، أو دخان فلا يجوز في هذه الحال إذا أدّى إلى ضرر على المباني الأخرى وإن وضعه ضمن عقاره فلو كان بلا كاتم للصوت أو يهتز أو بدون مدخنة إلى أعلى المبنى فإن جميع المالكين ضامنون للضرر الحاصل ويتحمّلون وزر ذلك.

هكذا نكون قد أجملنا بعض حدود التعامل مع الجيران، ونسأل الله أن يعيننا على الخير والتقوى إنه نِعم المجيب.


* أستاذ في الحوزة العلمية.
- ملاحظة: الفتاوى الواردة وفقاً للاستفتاءات الواردة لمكتب الوكيل الشرعي للإمام القائد الخامنئي دام ظله في لبنان.
1- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص267.
2- الكافي، الكليني، ج2، ص250.
3- م.ن.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع