الشيخ موسى خشاب
تختلف الحياة في المدينة عما هي عليه في القرية من جهات عدة كطبيعة المناخ وتلوث البيئة والضجيج وغيرها من الجوانب. لكن ما يهمنا في هذه المقالة تسليط الضوء على طبيعة الجوار الذي تفرضه الحياة في المدينة حيث إن السكن فيها يحكمه نظام المباني، والشقق السكنية في الأعم الأغلب وهو ما يوجد عنواناً جديداً أمام الناس لم يكونوا مسبوقين به في حياتهم القروية، فالمدينة التي يسودها نظام البيوت وهو ما يصطلح عليه الأقسام المشتركة، هذه الأقسام إضافة إلى التقارب السكني هي التي تجعل الجوار في المدينة مختلفاً عما هو عليه في القرية وتفرض مجموعة من المواضيع الجديدة والتي سوف نستعرضها ضمن عدة عناوين.
قبل ذلك نشير إلى نقطة هامة، ولو من باب التذكير، وهي أن كل المواضيع التي نبتلى بها في حياتنا العمليّة لها حكمها الشرعي وليس مورد الأحكام الشرعية الحياة الفردية فحسب، بل إنها تشمل كل حياتنا منذ الولادة إلى ما بعد الموت. فكما أنّ الشكّ في الصلاة له حكمه في الشرع كذلك فإن العلاقات العامة بين الناس لها حكمها أيضاً ومنها ما يتعلق بأحكام الجوار الذي يجب أن لا يخضع للمزاج والأهواء الشخصية، بل يجب أن نطبق الحكم الشرعي المتعلق به وأن نتعرف إليه من خلال مرجع التقليد عبر القنوات الموثوقة والمعتمدة.
أولاً: على مستوى العلاقات
1 - الاستئثار: يكثر الحديث عن التضحية والإيثار كقيمة اجتماعية وأخلاقية ودينيّة عالية. لكن، ما إن تصل النوبة إلى الأمور المتعلقة بنا يتعاطى بعضنا باستئثار بدلاً من الإيثار وهو ما نحتاج إليه في جوار المدينة بشكل أوضح بسبب التزاحم الموجود في المصالح، فتعمّ قاعدة "من سبق شمّ الحبق"؛ ففي المدينة ترى الاستئثار في حجز موقف خاص للسيّارة مع عدم كفاية الأمكنة للجميع وكذلك في حيازة المياه العذبة في مستوعب خاص آخذاً حصته ومتعدياً على حصة الآخرين وترى الاستئثار في التعدي على شبكة الكهرباء والذي يؤدي إلى تحميل المحول الكهربائي فوق طاقته... هذا كله في غياب القانون والنظام الذي يمكن أن يوسّع على الناس ما هو مضيّق، ففي العدل سعة "ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق" 1 كما قال أمير المؤمنين عليه السلام.
2 - عدم التواصل مع الجيران: حين يعيش الإنسان في القرية تجده يتواصل مع جيرانه الذين يبعدون عنه مئات الأمتار فيزورهم ويزورونه ويسأل عن أحوالهم ويسألونه. لكن، ما إن ينتقل إلى المدينة حتى يصبح ذلك الجار الودود ينأى بنفسه عن مخالطة جيرانه فيندر التزاور إن لم ينعدم في بعض الحالات حتى بالنسبة لجاره في نفس الطابق. ونعزي أنفسنا قائلين: الحمد لله أننا لا نؤذي أحداً ولا نضمر الشرّ لأحد، وهو أمر جيّد ومطلوب. لكن، ليس حسن الجوار كفّ الأذى فقط، بل هناك مجموعة من التعاليم الإلهيّة تفرض علينا السؤال عن الجار، ومعرفة أحواله، والإحسان إليه، وكلنا سمعنا بالقصة المشهورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين ذهب ليعود جاره اليهودي المريض والذي كان يرمي نفاياته على باب بيته صلى الله عليه وآله وسلم...
نكتفي هنا بتسليط الضوء على هذين العنوانين مع وجود عناوين أخرى هامة كخدمة الجار والصبر على الأذى وغيرهما وذلك لضيق المقام ولترك بعض المجال للحديث عن المشاكل التي يصطحبها السّكن في المدينة ...
ثانياً: على مستوى المشاكل
1 - تسرب المياه: تحمل حياة المدينة مجموعة من المشاكل منها مشكلة تسرب المياه من سطح المبنى، أو من شقة إلى أخرى، فتمطر السماء داخل الشقق وتفسد الطلاء الموجود على الجدران وتحدث عفونة في السقف والجدار وقد يؤدي التسرّب إلى بروز حالات مرضيّة بين الأولاد مع مرور الزمن، خصوصاً في الشقق التي لا تصل إليها الشمس.. والمشكلة تكمن في تهرّب صاحب الشقة المتسببة بتسرّب المياه من المبادرة إلى إصلاح الخلل متذرّعاً بأن التسرّب ليس من شقّته أو أن التكاليف الماليّة ليست على عهدته، أو يسوّف الأمور بحجج وأعذار... وهنا نكتفي بنقل الرواية الشريفة "لا يُؤمِنُ أحدكُم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه" 2 الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم... وإنّ بعض الإنصاف كفيل أن يحلّ المشكلة.
2 - الضجيج: إنّ تضاؤل فرص لعب الأولاد، ساكني المدينة، يؤدي إلى أن يحوّلوا البيت إلى ملعب، أو حقل، أو مدينة ألعاب فيتراكضون في البيت محدثين ضجّة عالية تضاف إليها ضجة التلفاز الذي يحدثه الوالد الذي يبحث عن محطة إخبارية أو الضجة التي يحدثها الجار الذي يقوم ببعض الإصلاحات المنزلية في وقت غير مناسب، وهذا ما يؤدي بشكل واضح إلى أذيّة الجيران، والتي أكدت تعاليم الإسلام على الامتناع عنها في العديد من الروايات... وتحضرني قصة عن الإمام الخميني قدس سره أنه حين كان يقوم للوضوء في أوقات السحر كان يضع "ليفة" تحت مصب الماء كي لا تحدث المياه صوتاً يزعج الآخرين...
*حلول مقترحة
وهناك مجموعة من المشاكل الأخرى لا يتسع المقام لها كرمي الأوساخ على شرفات الجيران، ومن النوافذ، ومدخل المبنى، وعدم دفع المستحقات المالية، وحجز غرفة المصعد، وغيرها من العناوين التي نتركها إفساحاً في المجال لذكر بعض الحلول المقترحة:
1 - القانون: إن النّفوس الطيّبة، والنوايا الحسنة، والمواعظ البليغة، لا تحلّ المشكلة من جذورها، بل لا بدّ من وجود القانون الذي يوضح الحدود التي يجب على الجميع الالتزام والتقيّد بها، وتطبيقها، والاستعانة بسلطة القانون لتطبيقها، وإلزام من يعبث بسلامة وأمان الناس. وهذا ما يستلزم مجموعة من الإجراءات القانونيّة المتعلقة بالمبنى، كدفع الرسوم البلدية، ووجود لجنة رسميّة للمبنى مسجلة لدى الدوائر المختصة، لتتفاعل الجهات المختصة مع الشكاوى المقدّمة من قبل السكان...
2 - لجنة المبنى: إنّ وجود لجنة غير شكليّة أو أشخاص محدّدين للاهتمام بشؤون المبنى المختلفة هو من الأمور المهمة التي تؤدّي في حال وجود خطّة لهذه اللّجنة إلى حلّ كل المشاكل المتعلّقة بما ذكر وبغيرها، على أن يتمّ التوافق على أشخاص يكون:
أ- لديهم القدرة على حل المشاكل.
ب- لديهم الوقت الكافي لمتابعة الأمور.
ج- يتحلّون بالصدق والأمانة في التعامل.
د- يقومون بمتابعة الأمور بشكل جدّي من خلال عقد لقاءات خاصّة لهذه الغاية ينتج عنها قرارات واقعيّة وجديّة...
3 - المبادرة: إنّ وجود النموذج الجيّد هو من العوامل المهمّة جداً، والتي تدفع النّاس إلى العمل. فالمبنى النظيف يشكل حافزاً لسكان المبنى الآخر للتمثّل والتشبّه به وهكذا... فإن المبادرة لإيجاد نموذج حيّ في النظافة وفي التنظيم وفي التعامل وغيرها من الأمور يفتح المجال أمام الآخرين للاقتداء بذلك النموذج، ويساعد القانون ليقضي شيئاً فشيئاً على مظاهر الفوضى في المدن والأحياء والمباني.
4 - إصلاح النفوس: ليست حياة المدينة هي المشكلة، وليس الحل هو العيش في القرية، بل المشكلة هي في الشخص الذي يحمل في نفسه الاستعداد للتعدّي على حقوق الآخرين سواء كان يعيش في المدينة أم القرية. فمن كان خلقه الاستئثار سيفعل ذلك ولو كان في بحبوحة وسَعَة، والحلّ بعد القانون أن يبادر كل منّا إلى ترويض نفسه وتربية أولاده على التخلي عن الرذائل الأخلاقية والتحلّي بالفضائل ليصبح مستعداً لقبول الحق والتحلي بالإنصاف والابتعاد عن أذية الآخرين والتعدي على حقوقهم المادية والمعنوية.
*وفي الختام كلمة
لكل داء دواء ولكل مشكلة حل، والحديث عن المشكلة لا يحلّها كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، بل لا بد من العمل المبني على تصوّر صحيح للحل والمرتبط بجدول زمني. وقد يصادف أننا نسكن في منطقة تسودها مشاكل مستعصية وعامة قد لا نتمكن من حلّها جذرياً ولكننا ومن دون شك يمكننا التقليل من حدّتها ومنع تفاقمها، وقد نكون في محيط جيران غير متعاونين وغير مبالين وما يهمهم هو عدم حدوث مشاكل داخل بيوتهم غافلين عن أننا نعيش في سفينة واحدة إن خُرِقَت من جانب غرقت. فالهواء الملوّث يدخل إلى كل البيوت، كذلك الفوضى والفساد، وقد نعيش في مكان نتعرض فيه للأذى من قبل بعض الجيران، كل ذلك وغيره يجب أن لا يحبط محاولتنا الخروج من الواقع السيئ ضمن قاعدة التصرّف بوعي وحكمة وعدم اللجوء إلى العنف لأنه لن يحل المشكلة، بل سيوجد مشاكل أخرى مستديمة إضافة إلى أنه خلاف ما أُمِرنا به في تعاليم الشرع الحنيف حيث قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام: "لَيْسَ حُسْنُ الْجِوَارِ كَفَّ الأَذَى وَلَكِنَّ حُسْنَ الْجِوَارِ صَبْرُكَ عَلَى الأَذَى" 3.
جعلنا الله وإياكم من المتحلّين بالصبر على البلاء والمتسلّحين بالعزم في حل مشاكلنا...
1- نهج البلاغة، الخطبة 15.
2- منية المريد، الشهيد الثاني، ص190.
3- الكافي، الكليني، ج2 ص667.