مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الاستقامة والثبات عند الإمام الخميني قدس سره

الشيخ عفيف النابلسي

 



تتميز الشخصية المتفردة غالباً بمجموعة من الارتباطات المكثفة، تشكل لها مصدراً ملهماً لمجمل سلوكاتها. فلا تجد تميّزاً واعياً عند فرد ما، إلا تلحظ مدى كثافة المرجعيات الروحية والمادية لديه. والشخصية التي نحن بصدد الحديث عنها، الإمام الخميني قدس سره، لديها من المميزات التي تحثنا على البحث عن مصدر نتاجها. وحينما نرصد نوعاً من أفعاله، نجد في داخلها قوة هائلة جديرة بالانتباه والتدبر، ومليئة بالعبر والمحمولات. وعندما قلنا: "نوعاً من أفعاله"؛ فإننا نقصد بذلك، تلك الأفعال التي ترسم شكلاً واضحاً من التحدي والمواجهة. التحدي والمواجهة يعكسان (ثباتاً) راسخاً وأصيلاً يصعدان بالشخصية إلى عالم الرقي والتكامل من مختلف الجهات، واستقامة شديدة تتجلى بقوة عند تزاحم الأهوال وتتالي المصائب.

* الإيمان والاستقامة
وإذا عدنا إلى مفهوم الاستقامة في الأدبيات الإسلامية، نجد أن مقام الأشخاص الذين وصلوا إلى هذا النوع من السلوك رفيع جداً، نتج عن سموهم وأسلوب تفكيرهم وسلوكهم وتنزههم عن الإصابة بآفة الخطأ في تشخيص الموضوعات. فالمعرفة والإيمان والأخلاق، أمورٌ لا يمكن أن تسير بشكلها السليم إذا لم تكن تقع على أرضية متماسكة، وذات ثبات راسخ. والإيمان بالله إذا لم يُفعّل بأشدّ الاستقامات، فإنه سينهار أمام أي اهتزازات عارضة. فقد ربط الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم فكرة الإيمان بعملية الاستقامة، حيث قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ. وإذا سرنا في هذه الآية الكريمة إلى نهايتها، سنجد المكانة الرفيعة التي سيحظى بها هؤلاء عند الله سبحانه، حيث استكمل الآية بقوله: ﴿أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون (فصلت: 30). والاستقامة عند هؤلاء الأشخاص لا تقف عند حدود الإثابة بمنزل رفيع، بل تتعداه إلى أمر في غاية الأهمية، وهو الدعم الذي سيوليه الله تعالى لهم في الحياة الدنيا، حيث إن الشخصية التي سعت لتستكمل إيمانها باستقامة راسخة ستكون تحت رعاية الخالق المدبر ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ (فصلت: 31). فالشخصية المستقيمة، إذاً، تتميز أيضاً بأن مصادر إلهامها، ليس بشرياً فحسب، بل هو إلهي أيضاً. وعلى هذا الأساس، فالعلاقة الروحية التي ربطت الإمام الخميني بالله، لم تكن مجرد علاقة إيمان فحسب، بل وصلت إلى مستوى الاستقامة التي أمره الله بها ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (هود: 11).


* الاستقامة قولاً وفعلاً
ومن هنا، نأتي إلى ذكر مسألة هامة جعلت شخصية الإمام الخميني تتميز بفرادة خاصة حتى عن الشخصيات المستقيمة المتعارفة عند الكثيرين منا. هذه المسألة ترتبط بالطاقة الروحية التي لم تكن في مستوى اعتيادي، بل في لحظة تفجر تتوق إلى اكتشاف الهدف والوصول إلى المقصد بالقطع واليقين. وكان الطريق إلى ذلك يمر عبر مسلك العرفان. والعرفان ليس مجرد المعرفة، بل هو أبعد غوراً ومدى منها. إنه الفيض الذي يتجسد بالفعل، فيصل بالعارف إلى أقصى درجات الاستقامة والثبات التي تعطيه القوة اللازمة لتكوين حالة مجتمعية تمثل ما يريده الله من الإنسان على الأرض. على هذا النحو، مقاربة الإمام الخميني لمفهوم الاستقامة ما كانت تنطلق من أساس نظري وعلمي فقط، ولم يكن هو في موقع يطرح من خلاله المسائل بعيداً عن حيثياتها التطبيقية على ذاته قبل الذهاب بها إلى الآخرين. لذلك لم يكن هو ليرضى بأن يربط علاقته بالله بحدودها القصوى، وهو لا يعكس هذا الارتباط بعمقه على حياته وسلوكه الشخصيين. فبعد إحدى المجازر الوحشية التي ارتكبها نظام الشاه في عهده، قال بكل جرأة ووضوح: "أنا مصمم على أن لا أقعد حتى أقضي على هذا النظام الفاسد وألتحق بالحق المقدس تعالى وأنا معذور".

هذا الكلام نموذج من نمط "الخطاب الخميني". وخطاباته جميعاً تعكس الروح ذاتها، فليس ثمة تناقض في كلماته أو تهافت أو ضعف. والسبب يعود إلى أن الروح المعنوية التي يعيشها الإمام ثابتة، باعتبار ارتباطها بما هو ثابت ومطلق (الله). ونقصد بعدم التهافت أو التناقض ليس في الخطاب الواحد فحسب، بل في جميع خطاباته التي ما فتئت تبرز الجانب الراسخ في قلب الإمام وضميره. فالتضحية والجهاد مثلاً، ليسا واجبين على الشعب، ومستحبين على غيره، والقائد لا يجعل نفسه متميزاً عنهم في نفسه، وهذه هي الفرادة بعينها، وليست الفرادة بالاحتجاب وراء الناس، ووراء جهادهم وتضحياتهم. وتأكيداً على ما قلناه، يؤسس الإمام لحقيقة جديدة يكون فيها الشعب والقائد في حالة اتحاد وتوحد، في حالة انسجام وتآلف، كل فرد له دوره الخاص في منظومة الجهاد والدفاع عن الإسلام، فنسمعه يردد في مجال التعلم والتعليم: "يجب أن تخلقوا جواً جديداً في سائر أنحاء إيران بتطهير التربية والتعليم من آثار الثقافة الاستعمارية، لتحولوا أطفالنا الأشبال إلى جبهة مساندة تقف دائماً خلف جبهة مقاومة أمريكا والصهيونية وشر المعتدين من الشرق والغرب، واطمئنوا إلى أن الخميني سوف يبقى معكم في خندق المواجهة حتى اقتلاع جذور الاستعمار الشرقي والغربي".

* الاستقامة في جميع المجالات
وهنا، نقف على إشارة أخرى وهي أن الاستقامة والثبات ليسا صفتين تختصان بمستوى واحد ومجال واحد كما هو الحال عند الإشارة إلى المواجهة العسكرية، بل هناك مستويات ومجالات كثيرة كالمواجهة العلمية والمواجهة الثقافية. والمفارقة أننا نجد الكثير ممن يتحلون بالروح الثورية ضد الاستعمار والتدخل الأجنبي، ينسحقون ويسقطون أمام ثقافته بدعوى أهميتها وضرورة الأخذ بأسباب القوة، إلا أن الإمام لم يكن ليرضى أن يُذلّ أو يأخذ الناس إلى شر التغرب وهو يدرك أثر هذه الثقافة وفسادها على المجتمع الإسلامي. ومما يتفرد به الإمام الخميني في نفس المضمار الذي نتحدث عنه مسائل تتعلق بوحدة الإسلام والمسلمين، في الوقت الذي ينتمي فيه إلى مذهب التشيع. إلا أن ولاءه لم يمنعه من أن يكون أحد أبرز الداعين لتوحيد المسلمين، حيث اعتبر هذه الوحدة بمثابة المقدس الذي لا يجوز مسه بشكل من الأشكال، فنجد القيم الراسخة والثبات والمصداقية في قوله وعمله، ولم يرض أن تمس المقدسات الإسلامية، ولو كانت تحت سيطرة مذهب دون بقية المذاهب، وكان همه الأساسي منصباً على محاربة الطغاة وأذنابهم، ولم يكن ينظر إلى الجزئيات والتفاصيل التي تتعلق بإشراف مذهب على هذا "المقدس" من المقدسات لدى المسلمين. ويقول بهذا المعنى: "إذا لا سمح الله اختلفنا مع بعضنا ونسينا تلك الجهة الإلهية التي أمرنا الله تبارك وتعالى بها وهي ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ، فسيأتي وقت ترون فيه أن عناية الله سوف تذهب عنا.

* لا شيء مستحيل
لقد عبّد الإمام رؤيته من منظورها الإلهي، فهو العارف الواصل الذي أدرك حقائق الأشياء، ولم تعد تغريه القشور، من منصب أو مكسب. فالحق هو عنوانه الذي ما فتئ يبحث عنه. فقد التمس قول الإمام علي عليه السلام عن الدنيا: من نظر إليها أعمته، ومن نظر فيها بصّرته. وفي هذا المجال يقول الإمام الخميني: "الحق منتصر، وما دمنا في طريق الحق، فنحن منتصرون. والباطل مهزوم، وكل من يسير في طريق الباطل، فسوف يكون مهزوماً". ويخاطب الشعب الإيراني بقوله: "لقد كان الحق معكم حينما هتفتم: نحن نريد الإسلام ولا نريد الكفر والشرك ولا الغزاة ولا قول الزور. وأولئك كانوا مع الباطل حينما وقفوا بمواجهتكم وأرادوا المحافظة على ذلك النظام. كذلك القوى الداخلية والقوى الخارجية والعملاء الداخليون، سواء كانوا من أهل القلم والبيان أم كانوا من أهل العمل والحيل والرايات الحربية. ومع ذلك، فإن شعبنا بقدرة "الله أكبر" تغلب على هذه الحيل والرايات الحربية الكبيرة وانتصر، والحق منتصر دائماً". هكذا، نرى أن لا شيء لدى الإمام مستحيل، ولا شيء يقف دون تحقيق غاياته المثلى. فقد ارتأى أن يعبد الله وحده ولا يشرك معه الطاغوت والجبت. ولم يكن مفهومه للطاغوت أنه مفهوم عرفاني فقط أي النفس الأمارة بالسوء، بل جمع في رؤيته المفهوم المادي لها أيضاً، حيث اعتبر أن الحرب على الطغيان واجبة كما هي الحرب على النفس الأمارة التي تضل الإنسان عن طريق الهدى والحق. فما كان غير مقدور عليه سابقاً أصبح بفضل الشعلة الإلهية المتوقدة لديه ولدى شعبه ممكناً بل ومتحققاً أيضاً. فما دامت الرهبة من الله وحده، فلا رهبة لأي مخلوق على وجه الكرة الأرضية: "حتى لو أتوا بجميع سفنهم وطائراتهم إلى هنا، فالوضع اليوم غير ما كان سابقاً، فنحن متكلون على الله".

هذا هو الإمام وهذه منطلقاته: عزيمة راسخة وبنيان شامخ وقلب جسور لا يهاب الصعاب ولا تنطلي عليه ألعاب الكبار. ثابت في حزمه، لم يُعر غير الله جمجمته، ولم ينظر إلا إلى أقصى القوم، فقد زالت الجبال وهو لم يزل.



كل الاقتباسات الواردة في النص مأخوذة من كتاب "الاستقامة والثبات في شخصية الإمام الخميني"، ترجمة الشيخ كاظم ياسين.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع