إن الكثيرين لا يلتفتون إلى حقيقة هامّة، تتلخص في وجود ثلاثة فوارق أساسية بين الحرية في المنطق الإسلامي وبين الحرية في المنطق الغربي.
* الحرية ذات جذر إلهي
الليبرالية في المنظور الغربي معناها حرية الإنسان دون النظر إلى حقيقة الدين والخالق، ولذلك، فهم لا يعتبرونها هبة إلهية للإنسان، وإنما يبحثون عن جذور فلسفية لها، ويطرحون بشأنها تفسيرات شتّى. أما في الإسلام، فالحرية ذات جذر إلهي، وهذا بحد ذاته فارق أساسي تتفرع عنه فوارق عديدة. ويذهب المنطق الإسلامي إلى اعتبار أي تحرك مُناهض للحرية بمثابة تحرك مضاد لظاهرة إلهية؛ بمعنى أنه يُلقي على المكلف فريضة دينية للتصدي لأي محاولة لسلب الحريات. ومثل هذا التصور لا وجود له في الغرب. أي إن الكفاح الذي يخوضه الناس في سبيل الحرّية، ليس له أي تبرير منطقي من وجهة نظر الليبرالية الغربية، لأن من جملة ما يُقال في هذا الصدد، هو إن في "الحرية" خيراً عاماً ومنفعة للأكثرية، أي أن هذا هو منطلق الحرّية الاجتماعية. إلا أن التساؤل الذي يُثار هنا، هو لماذا أُقتل وأُعَذَّب في سبيل مصلحة الأكثرية؟ هذا أمر بعيد عن المنطق. في الفكر الإسلامي لا تسير القاعدة على هذا المنوال وإنما يُنظر إلى الكفاح من أجل الحرّية كتكليف ديني، لأنه يجري في سبيل أمر إلهي.
* الحرية مطلقة أم نسبية؟
وتترتّب على هذا الفارق الأساسي فوارق أخرى فرعية؛ منها على سبيل المثال، أن الليبرالية تؤمن بالحرية المطلقة، انطلاقاً من اعتقادها بنسبية الحقيقة ونسبية الأخلاق. ويبررون ذلك بالقول إنك لا ينبغي لك مؤاخذة من ينتهك ما تدين به من معتقدات؛ وذلك لأنه ربّما لا يعتقد بمثل ما تعتقد به. ويترتب على هذه القاعدة طبعاً عدم وجود أي حد للحرية لا معنوياً ولا أخلاقياً. وهذا التصور نابع من عدم إيمانهم بوجود حقيقة ثابتة، وأن القيم الإنسانية أمور نسبية. أما الإسلام، فلا يذهب إلى هذا الرأي، وإنما يؤمن بوجود قيم ثابتة ومسلّم بها، وبوجود حقيقة الكمال والقيم التي يسير الإنسان نحوها. والحرّية إنما تكون محدودة في إطار هذه القيم.. وحتى هذه الحرية الاجتماعية التي يكرّمها الإسلام إلى هذا الحد، إذا استغلت في طمس المعطيات المادية أو المعنوية لشعب ما تصبح حينذاك مضرّة، ومثلها تماماً كمثل حياة الإنسان ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: 23).
* الحرية والمصالح المادية
الفارق الآخر في النظرة إلى الحرية هو أن الغرب ينظر إليها في إطار المصالح المادية. وحتى الحريات الفردية والاجتماعية، تتحدد في ضوء هذه الرؤية. فعندما يكون هناك مساس بالمصالح المادية، تضيق رقعة الحرية. وحتى إن المصالح المادّية تشمل هنا الهيمنة العلمية لتلك البلدان. فمن المعروف أن حق التعليم والتربية من جملة الحقوق والحريات المسلّم بها لكل إنسان، إلا أن رقعة هذه الحرية تضيق في الجامعات الكبرى للدول الغربية؛ إذ لا يجوزون انتقال العلوم والتقنية المتطورة إلى بعض البلدان، مخافة أن تخرج التقنية من احتكار هذه الدول، مما يفقدها تسلطها وهيمنتها في هذه الحقول.
* قيود الحرية
وهكذا الحال أيضاً في مجال انتقال المعلومات والأخبار. هنالك اليوم ضجّة في العالم تنادي بحرية تداول الأخبار والمعلومات، ليطلع الناس عليها. وهذا من مصاديق إشاعة الحرية في الغرب. إلا أن أمريكا حينما شنّت هجومها على العراق، فرضت رقابة صارمة على المعلومات لمدّة أسبوع أو أكثر، وأعلن رسمياً بأنه لا يحق لأي صحفي نقل أو نشر أية صورة أو خبر عن الهجوم الأمريكي على العراق، بذريعة الأمن العسكري. إذاً، فالأمن العسكري يقيّد حق الحرّية، وهذا القيد هو قيد مادي طبعاً. هذا فضلاً عن أن توطيد ركائز تلك الحكومات، يمثل قيداً آخر على الحريات. ولا بدّ وأنكم سمعتم ما حصل في أمريكا قبل سنوات، حينما ظهرت جماعة تحمل توجهات دينية خاصة ضد الحكومة الأمريكية، فحاولت السلطات الأمريكية القضاء عليهم عبر الأساليب الأمنية، ولكن دون جدوى، فلجأت إلى محاصرة الدار التي اجتمعوا فيها وأضرمت النار فيها؛ فالتهمت النيران أجسادهم، وكان عددهم حوالي ثمانين شخصاً بينهم نساء وأطفال. تلاحظون إذاً أن حرّية الحياة، وحرية المعتقد، وحرّية الكفاح السياسي مقيّدة بهذه الحدود. ويستخلص من هذا، أن الحرية في العالم المادي الغربي لها حدودها وقيودها أيضاً. غاية ما في الأمر، أنها قيود مادية..
أما القيم الأخلاقية، فلا تشكل هناك أي حاجز أمام الحرية. فهناك على سبيل المثال في أمريكا حركة الشذوذ الجنسي، وهي من الحركات الناشطة، وتتباهى بسعة نشاطها، وتنظم التظاهرات في الشوارع، وتنشر ما تشاء من الصور في المجلات، وتشير بكل فخر إلى أسماء التجار والساسة الذين ينتمون إليها، من غير أن ينكر أحد منهم مثل هذا الانتماء أو يشعر بالخجل منه. والأدهى من ذلك، هو أن بعض من يعلنون معارضتهم لهذه الحركة، يواجهون هجمة شرسة من بعض الصحف والمجلات. وخلاصة القول، هي أن القيم الأخلاقية لا توجب لديهم فرض أي قيود على الحرية. من الأمثلة الأخرى الشائعة في الدول الأوربية، هو أن حرية البيان تتقيّد بعدم الدعاية لصالح الفاشية. ومن الواضح أن الدافع الكامن وراءه دافع مادّي ومنفعة حكومية. في حين أن حركة العري وهي حركة أخرى أيضاً لا تفرض عليها مثل هذه القيود. وهذا يعني أن حدود الحرية وفقاً للنظرة الغربية وفي ظل جذورها ودوافعها الفلسفية تتقيد بالحدود المادية لا الأخلاقية. إذاً، الفارق الآخر الذي تتسم به الحريّة في المنطق الإسلامي، هو أن لها قيوداً من القيم المعنوية. إذا كان الإنسان يؤمن بعقيدة ضالّة، فلا مؤاخذة عليه.
وحينما نقول لا مؤاخذة عليه، فذلك يعني أنه مؤاخذ أمام الله وأمام المؤمنين، إلا أن الحكومة غير مكلفة باتخاذ أي إجراء ضدّه. كان اليهود والمسيحيون وأتباع بقية الأديان موجودين في المجتمع الإسلامي في زمن صدر الإسلام، وفي بلدنا في الوقت الحاضر، ولا مانع من ذلك. أما إذا حاول صاحب العقيدة الفاسدة إضلال الناس البسطاء، فلا بدّ من وضع قيود أمام حريته. وهذا المثال ينطبق أيضاً على من يبتغي إشاعة الفساد السياسي أو الفكري أو الجنسي.
* الحرية والتكليف
وهناك فارق آخر أيضاً، وهو أن الحرية في منطق الفكر الليبرالي الغربي تتنافى مع التكليف؛ على اعتبار أن الحرية تعني التحرر من التكليف أيضاً. في حين يذهب الإسلام إلى أن الحرية هي الوجه الآخر للتكليف، والناس أحرار لأنهم مكلفون. وإذا لم يكن هناك تكليف، فلا ضرورة للحرية، ولكانوا على طبائع الملائكة؛ بينما يتصف الإنسان بأنه مركّب من جملة غرائز ودوافع متناقضة يسير من بينها على طريق الكمال. وقد منح الحرية من أجل طي طريق الكمال هذا. وهذه الحرية على ما لها من قيمة إنّما مُنحت له من أجل تكامله، مثلما أن حياته نفسها وهبت له في سبيل السير نحو الكمال ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56). فالله تعالى خلق الجن والإنس من أجل أن يبلغوا مرتبة العبودية، وهي مرتبة عالية جداً. والحرية أيضاً كحق الحياة تمثل مقدّمة للعبودية. بلغوا في الغرب في رفضهم للتكليف مرحلة رفضوا معها كل تفكير ديني وغير ديني، وكل عقيدة فيها تكليف، وحلال وحرام، ويجب أو لا يجب. في حين يقف الإسلام على طرف نقيض من ذلك، ويعتبر الحرية مواكبة للتكليف لكي يستطيع الإنسان بواسطة هذه الحرية أداء تكاليفه على نحو صحيح، وينجز أعمالاً كبرى، ويستطيع بلوغ التكامل.