الشيخ يوسف سرور
في طريق العودة من الشام، وعندما وصل ركب السبايا إلى العراق، "قال الإمام زين العابدين عليه السلام والنساء للقائد (قائد المسيرة الذي كلفه يزيد بالسير بالقافلة وإيصالها إلى المدينة): بحق معبودك أن تدلنا على طريق كربلاء"(1) وذلك من أجل أن "يجددوا عهداً بزيارة أبي عبد الله عليه السلام"(2) "ففعل ذلك حتى وصلوا إلى كربلاء"(3). قال الشيخ المفيد "وفي العشرين من صفر.. هو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبد الله بن حزام الأنصاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله تعالى عنه من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر سيدنا أبي عبد الله الحسين عليه السلام"(4). "ولما مرّ عيال الحسين عليه السلام بكربلاء، وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري رحمه الله، وجماعة من بني هاشم، ورجالاً من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قد وردوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام، فوافوا في وقت واحد، وتلاقوا بالحزن والاكتئاب، والنوح على هذا المصاب، المقرح لأكباد الأحباب"(5).
*زيارة الأربعين:
قال السيد ابن طاووس إنهم "أقاموا المآتم المقرحة للأكباد، واجتمعت إليهم نساء ذلك السواد أي تلك المنطقة وأقاموا على ذلك أياماً"(6)، وروى القندوزي عن أبي مخنف أنها "ثلاثة أيام"(7). وقد أصبح العشرون من صفر من ذلك اليوم، تقليداً وسنة بين الموالين والأنصار؛ وقد اعتبر العلامة المجلسي ذلك رجوع الركب الحسيني إلى كربلاء في ذلك اليوم وإقامة المآتم علة وسبباً لما يُعرف بزيارة الأربعين، وقال إن ذلك "مشهور بين الأصحاب"(8). وقد روى الشيخ المفيد وغيره: "روي عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام أنه قال: علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم"(9).
*الرأس الشريف:
ورد في الكثير من الروايات والكتب، أن الإمام زين العابدين عليه السلام حمل الرأس الشريف للإمام أبي عبد الله عليه السلام معه إلى كربلاء، ودفنه مع الجسد الطاهر، فقال المجلسي: "والمشهور بين علمائنا الإمامية أنه دُفن رأسه مع جسده، ردّه علي بن الحسين عليه السلام"(10)، و"كان العمل من الطائفة على هذا"(11). وروى الشيخ الصدوق رحمه الله، في أماليه والمجلسي في بحاره، "بالإسناد عن فاطمة بنت علي صلوات الله عليهما، أنها قالت: "ولم يرفع ببيت المقدس حجر عن وجه الأرض، إلا وجد تحته دم عبيط؛ وأبصر الناس الشمس على الحيطان حمراء، كأنها الملاحف المعصفرة، إلى أن خرج علي بن الحسين عليهما السلام بالنسوة. وردّ رأس الحسين إلى كربلاء"(12).
وهناك أقوال أخرى في موضوع العشرين من صفر، هل أن الركب الزينبي وصله في نفس العام أم في عام آخر؟، وأقوال في قضية الرأس الشريف للمولى أبي عبد الله عليه السلام؛ أعرضنا عن الخوض في تفاصيلها ومناقشتها، تجنباً للإطالة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذا ليس محلها. وقد ذُكرت كيفيات ووسائل متعددة لعودة الرأس الشريف للمولى أبي عبد الله عليه السلام إلى كربلاء؛ أعرضنا عن الخوض في تعدادها. والخلاصة: أنه أعيد على يدي ولده وفلذة كبده الإمام زين العابدين عليه السلام؛ على مذهب من ذهب إلى أنه أُلحق بالجسد الشريف ودفن معه.
وعلى أي الأقوال كان الصواب، فالصواب ما ذكره سبط ابن الجوزي، إذ قال: "ففي أي مكان رأسه أو جسده، فهو في القلوب والضمائر، قاطن في الأسرار والخواطر، يقول أيضاً: أنشدنا بعض أشياخنا في هذا المعنى:
لا تطلبوا المولى حسين |
بأرض شرق أو بغرب |
ودعوا الجميع وعرّجوا |
نحوي فمشهده بقلبي(13). |
*نحو المدينة:
وبعد أن أقام الركب الزينبي في كربلاء أياماً ثلاثة على ما أسلفنا ، انطلق تاركاً كربلاء، مودعاً البدن الطاهر لأبي عبد الله عليه السلام وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم، في شغاف قلوب أفراده؛ ومثقلاً بالآهات والغصص على وقع تلك الذكريات المرّة. ترك الركب كربلاء مودعاً كل آلامه وحسراته، أفئدة لم تتعود هجر السبط ولا جفاءه، عكفت على أحزانها، منكفئة عن كربلاء باتجاه المدينة، مرتع الصبا وحضن الأحلام الذي عرفت أزقته وزواياه، خطوات لزينب مع أخيها الحسين يردّ بظله الظليل حر الشمس ولهيبها عن وجهها، الذي عاد ملوّحاً بشمس كربلاء الحارقة.
عاد الركب إلى المدينة، التي خبرت عزّة زينب ومكانة زينب، التي اعتزت بسمو زينب وطهر زينب.. عادت وآثار السياط على متونها، وحفائر الجامعة تطوق رقبتها ورقبة المولى زين العابدين. عاد الركب إلى المدينة، التي شهدت الأيام الخوالي لربة العفاف زينب، والتي ما رأتها عين، ولا رمقتها مقلة، ولا نال من طرفها رجل.. عادت وقد تصفح وجهها كل المشفقين والشامتين والحاقدين. عادت إلى المدينة التي شهدت لها أياماً في كفالة قمر بني هاشمي، يرعاها ويقوم بخدمتها... عادت والحادي يسوق ركبها، وتلهب فؤادها مشاعر الفقد والوحشة والغربة، تنثر أحلامها... بعضاً فوق رمضاء كربلاء.. وبعضاً بين أزقة الكوفة التي شهدت أيامها مع أبيها... وبعضاً في خرائب الشام وفي قصر القاتل أسيرة... وبعضاً على جادات العذاب، بعد أن لم يتبقَّ معها إلا القليل القليل من الصحبة والأحباب.
لم تذكر كتب التاريخ عن وقائع العودة من كربلاء إلى المدينة شيئاً، ولا تطرقت إلى الأحداث التي حصلت مع الركب الزينبي في تلك الطريق؛ ولا إلى المنازل والمحطات التي نزلت فيها هذه القافلة؛ إنما ذكرت لحظة وصول الركب إلى مشارف المدينة، حيث طلب الإمام زين العابدين عليه السلام أن يتوقف الحادي، ففعل. وكلف الإمام عليه السلام بشر بن حذلم ليتقدم الركب ويسبقه، من أجل أن ينعى الحسين عليه السلام، ليستقبل أهل المدينة هذا الركب بالعزاء والنحيب، على ما عرفت أيها القارئ العزيز. عاد الركب إلى المدينة لتستقبله بعض الجموع، بينها أم سلمة، التي في قلبها ما فيه من المنزلة لأبي عبد الله عليه السلام.
فمضافاً إلى ما يعرف القارئ عن أمر القارورة والوداع، ذكر الطبراني بإسناده عن المطّلب بن عبد الله بن حنطب، عن أم سلمة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً ذات يوم في بيتي، فقال: لا يدخل عليّ أحد، فانتظرت فدخل الحسين رضي الله عنه، فسمعت نشيج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبكي، فاطّلعت فإذا حسين في حجره والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمسح جبينه وهو يبكي، فقلت: والله، ما علمت حين دخل. فقال: إن جبرائيل عليه السلام كان معنا في البيت، فقال: تحبُّه؟ قلت: أما من الدنيا، فنعم. قال: إن أمتك ستقتل هذا بأرض يُقال لها كربلاء. فتناول جبرائيل عليه السلام من تربتها، فأراها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما أُحيط بحسينٍ حين قُتل، قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: كربلاء، قال: صدق الله ورسوله، أرض كربٍ وبلاء"(14).
(1) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي، ج3، ص92.
(2) تسلية المجالس، للسيد محمد بن أبي طالب، ج2، ص458.
(3) ينابيع المودة، مصدر سابق.
(4) مسار الشيعة، ص46.
(5) مثير الأحزان، ابن نما، ص107.
(6) الملهوف، ص225.
(7) ينابيع المودة، ج3، ص92.
(8) بحار الأنوار، ج101، ص334.
(9) كتاب المزار (للشيخ المفيد)، ص60.
(10) البحار، ج45، ص145.
(11) تسلية المجالس، ج2، ص459.
(12) أمالي الصدوق، المجلس 31، حديث 243، وعنه في البحار ج45، ص140.
(13) تذكرة الخواص، ص266.
(14) المعجم الكبير للطبراني، ج3، ص115، حديث 2819.