فاطمة منصور
لا يوجد أحد يجهل قضية كربلاء الحسين عليه السلام . وليس المرء بحاجة لأن يكون شيعياً أو متشيّعاً كي يتفهّم قضيّة كربلاء الحسين عليه السلام ودلالاتها، فقد بقيت في الضمير الإنساني كلِّه مثالَ تضحيةٍ وفداءٍ وسعيٍ إلى إثبات الحق وشرعيته في مواجهة القوة، والتضحية بالحياة ذاتها لإثبات صحة القضية. ولكن نادراً ما نجد دراسة تناولت مراسيم العزاء الحسيني. ويمكن أن نعزو السبب في ذلك لأصالة عدد من المفاهيم المرتبطة بتلك المراسيم من جهة، وبروز عدد من الممارسات وكيفية التعاطي معها، من جهة أخرى.
وتأتي دراسة الباحث والأنثروبولوجي العراقي إبراهيم الحيدري "تراجيديا كربلاء، سوسيولوجيا الخطاب الشيعي" والتي تقدَّم بها لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة برلين العام 1975 كمحاولة لإغناء المكتبة العربية والإسلامية بمرجع يتناول هذا النوع من المواضيع.
في هذا الكتاب، يحلّل الحيدري أهم التشكيلات التي ظهرت على هامش فاجعة كربلاء في التكوين الشيعي على مدى التاريخ ويمتاز الكتاب بإطلالة عميقة على تلك التشكيلات وقراءة مدلولاتها الاجتماعية والسياسية والنفسية. ويذهب الحيدري إلى أنّ العزاء الحسيني عبارة عن مجموعة من الشعائر والطقوس الدينية التي تحمل أبعاداً اجتماعية/ سياسية وفولكلورية، وقد ارتبطت بمأساة كربلاء الدامية مثلما ارتبطت بتاريخ الشهادة والحزن.
يُقسّم الدكتور إبراهيم الحيدري دراسته إلى مقدمة وسبعة فصول وخاتمة. ولعل أهم فصول الدراسة الفصلان الخامس الذي يتناول "سوسيولوجيا الخطاب الشيعي للعزاء الحسيني"، ثم السادس "الخصائص الفولكلورية للعزاء الحسيني"، ففيهما تتمثل أبرز وجوه أهمية الدراسة كلها. وأما فيما يتعلق بمضمون الخطاب الشيعي فيحدّد الباحث موقفه من البداية: "إن هدفنا.. ليس المفاضلة بين خطاب وآخر، ولا الدفاع عن أحدهما ضد الآخر، فأنا لست داعية من الدعاة بقدر ما أنا باحث اجتماعي أحاول دراسة ظاهرة دينية ذات محتوى اجتماعي - سياسي، وهي في الوقت ذاته ظاهرة فولكلورية شعبية ترتبط بالتراث العربي الإسلامي..".
*فصول الكتاب
في الفصل الأول من الكتاب، يستعرض الحيدري ملامح التاريخ الاجتماعي في الزمان والمكان، في محاولة منه لرسم صورة لبنيته وخصوصياته ومخلفاته المثقلة بالأحزان، وكذلك عرض الأزمات التي رافقته والتي بدأت مع أول صراع في الإسلام على الإمامة والسياسة، الأمر الذي كشف لنا آليات الوصول إلى السلطة.
في الفصل الثاني يستعرض الكاتب مراسيم العزاء الحسيني، بدءاً بوقائع معركة الطف، تلك المأساة الدامية التي مثّلت أول تراجيديا في الإسلام والتي بقيت حيّةً في ذاكرة المسلمين وخصوصاً أن الحسين عليه السلام انطلق دفاعاً عن الإسلام ووجوده.
أما في الفصل الثالث منه فيتتبع أثر العوامل الدينية والاجتماعية والسياسية في تطور وازدهار العزاء الحسيني في العراق، والتي تعود في جزء منها إلى الأوضاع الاجتماعية المزرية والنزوح الريفي إلى المدن.
وفي الفصل الرابع يستعرض الأهمية الدينية والاجتماعية - السياسية للمدن الدينية في العراق، وخصوصاً العتبات المقدسة كالنجف الأشرف وكربلاء والكاظمية وسامراء وبغداد، وكذلك دور السادة والشيوخ والأولياء والطرق الصوفية في العراق وأهميتهم الاجتماعية.
أما في الفصل الخامس فيتطرق إلى أهم الأبعاد الأساسية لظاهرة العزاء الحسيني، مؤكداً أهميتها من الناحية الدينية وفلسفتها الاجتماعية، منطلقاً من العلاقة الجدلية القائمة بين تراجيديا الألم في كربلاء وفكرة الأمل المنقذ الذي تضمنه استشهاد الإمام الحسين عليه السلام والذي تم بإرادته واختياره.
الفصل السادس تناول البعد الفلكلوري لمراسيم العزاء الحسيني، وخصوصاً مواكب العزاء ومسرح عاشوراء، مع تحليل سوسيولوجي للشعر الشعبي الحسيني باعتباره تعبيراً عن الحرب ضد الذات المهانة وشكلاً للتطهير الذاتي.
ويتعرض الحيدري في الفصل السابع والأخير لمحاولات الاستغلال والتشويه التي دخلت إلى مراسيم العزاء الحسيني من قبل أصحاب المصالح والأغراض.
*أهمية الكتاب
للكتاب مميزات عدة في كونه أول دراسة عربية تضع هذه الظاهرة - ظاهرة "مراسيم العزاء" - في سياقاتها الموضوعية المتعددة، ثم إنه يلتزم منهجا علمياً، متعدّد المصادر والمراجع (في اللغة العربية والألمانية بوجه خاص) فيما نراه يعود إلى كتب المقاتل والشعر والمجالس نفسها.
وتشمل مصادره دراسة ميدانية قام بها في "الكاظمية" في 1968، السنة الأخيرة التي سُمح فيها بإقامة مواكب العزاء على هذا النحو من العلانية واستغرقت ستة شهور، بخاصة في شهري محرم وصفر وكذلك "يوم الأربعين" في كربلاء من تلك السنة حيت رصد الكثير من التفاصيل.
يقول الحيدري: "خلال دراستنا لعاشوراء، بخاصة في المدن المقدسة: كربلاء والنجف والكاظمية وغيرها.. استطعنا جمع عدد كبير من المعلومات الإثنوجرافية(*) والحقائق الاجتماعية والوثائق التاريخية، وكذلك عدد كبير من الخطب والأحاديث والقصص والأساطير والقصائد الشعرية والمراثي و"الأبوذيات" وغيرها من المعلومات.. إلى جانب المقابلات المباشرة وغير المباشرة مع عدد من علماء الدين والمؤرخين وخطباء المجالس الحسينية ورؤساء المواكب والشعراء الشيعيين والنوَّاح وكذلك مع عدد من المشاركين في العزاء الحسيني والمشاهدين له، على مستويات اجتماعية وثقافية مختلفة ومتعددة".
*وقفة مع مضمون الكتاب
أما من ناحية المضمون الذي تقدم به الحيدري فإننا نجده يؤكد أن هذه الظاهرة ليست وليدة الحاضر الراهن، وإنما هي وليدة إرهاصات وتطلعات وصراعات، تراكمت عبر واقع موضوعي، امتدّ عمقاً في التاريخ الإسلامي بحيث كوّنت وعياً جمعياً امتدّ إلى عمق الحاضر ليظهر في شعائر وطقوس عبّرت وما تزال تعبّر عن عمق المشاعر نحو عاشوراء في ذاكرة المسلمين.
ومن خلال الاستقراء التاريخي؛ يبرهن الحيدري على العلاقة الجدلية بين تطوّر مراسيم العزاء الحسيني وبين تطوّر وانتشار حركات المعارضة السياسية في الإسلام، كما يُلحظ من خلال بيان المؤشرات التاريخية التي تعود إلى ذلك النوع من الشعائر الرمزية التي قام بها التوابون للأخذ بثارات الحسين عليه السلام . وقد كوّنت تلك الحركة نواة الاحتفالات بذكرى عاشوراء، حيث كانوا يذهبون إلى كربلاء ويتجمّعون حول قبر الإمام الحسين عليه السلام للبكاء وطلب المغفرة لتقاعسهم عن نصرته في واقعة الطف الكبرى. هذا فضلاً عن اجتماع أهل البيت عليهم السلام وأنصارهم يوم عاشوراء في بيت من بيوت الأئمة وإقامة الندب، حيث يستحضر أحد الشعراء مأساة كربلاء.
وهنا تبرز قضية غاية في الأهمية تتعلق بنمو وتطور الوعي الشعبي الذي رافق صور وجوانب مراسيم العزاء الحسيني، وهو وعي راكمته من جهة طبيعة الأنظمة الشمولية بدايات ظهور الملامح الأولى للعزاء الحسيني، ومن جهة أخرى تحول ذلك الوعي إلى جزء من الذاكرة ومفصلاً مهماً من مفاصلها من خلال القيام بطقوس تلك المراسيم ونشوء ثقافة البكاء، ثقافة الحزن. حدث ذلك في ظل تعدد الوسائط الإعلامية التي أسهمت إسهاماً مباشراً في تنوع الأنشطة والمراسيم المرتبطة بالعزاء الحسيني ومن ثم تصاعد الوعي بالأهداف الكبرى والنبيلة التي انطلق منها الإمام الحسين عليه السلام في تفجير ثورته والخروج على النظام الأُموي الغارق في تجاوزاته الخطيرة التي مست وطالت الإسلام ورموزه في العمق.
وينتهي الحيدري إلى استنتاج أن مراسيم العزاء كانت تراكمية، وكشفت عن ومضات ثورية مضيئة في تاريخ المسلمين، ولكنها في الوقت نفسه تكشف عن جوانب سلبية هي نتاج سوء الفهم أو "الوعي الزائف" الذي يجعلها عرضة للاستغلال والتشويه وخصوصاً حين تختزل إلى مجرد بكاء ولطم وجلد ذاتي. فالعزاء الحسيني هو في الحقيقة فلسفة دينية واجتماعية عميقة الجذور في الوجدان الشيعي، ويساعد على تثبيت العقيدة في مواجهة تحدي المصير ثم يخلص إلى أن المراسيم وإن تحصنت من الاستغلال والتشويه إلا أنها قد تخضع لبعض التجاوزات وخصوصاً إن تم الاستفادة منها من بعض أصحاب المصالح إلا إنها تبقى محصنة من البدع مع وجود علماء واعين.
*خلاصة القول
إن هذه الدراسة ذات الطابع السوسيولوجي تحتاج إلى الكثير من الفهم والتحليل. وإن كان ما قد تعرض له الحيدري هو عملية سرد تاريخي متوازية مع دراسة ميدانية تتضمن محاولة انتقاد لناحية واحدة من الممارسات أو الطقوس والتي حاول أن يجد لها تحليلاً ومبرراً فيندفع نحو جعلها ذات جذور نفسية وذلك في كونها مرتبطة بفكرة الحزن والنكوص والعجز المنتقل من الفرد إلى الجماعة. ولعل عنونة كتابه بتراجيديا كربلاء تعود إلى هذه الناحية من الموضوع؛ التعبير عن الحزن التي هي بحد ذاتها تخضع لنفس الموازين من الناحية الإنسانية والتي تأتي بشكل تلقائي عند فقد عزيز أو قائد وهذا أيضاً يرتبط بمستوى المعرفة بهذا الشخص والفهم الحقيقي لوجوده وأهميته. والحسين عليه السلام لم يكن في يوم ما مجهول النسب مبتور الغاية والهدف. ومهما حاولنا تفسير ظاهرة اللطم والبكاء إلا أن جانب التعلق بالحسين عليه السلام يكفي أن يقال فيه الحديث النبوي "إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً" فهذه الحرارة التي ستبقى تولد رفضاً ومقاومةً لكل ظلم. وهذه النقطة بالذات قد ركز عليها الحيدري في دراسته وهي أساس بقاء واستمرارية هذه المراسيم.