سماحة السيد حسن نصر اللَّه
تضمنت خطبة الرسول صلى الله عليه وآله في استقبال شهر رمضان المبارك مجموعة من المعاني الأخلاقية والتربوية، وهنا نتناول بعضاً من مقاطع هذه الخطبة بالشرح والتوضيح.
* "دعاؤكم فيه مستجاب":
اللَّه سبحانه وتعالى يستجيب دعاءنا في هذا الشهر المبارك. ولكن، ينبغي أن يكون هذا الدعاء بنية صادقة وقلب طاهر. وهناك أمر يمنع الاستجابة ولو دعوناه بقلب طاهر ونية صادقة، وهو أن المضيف إنما يتكرم على ضيفه ويجود عليه ويعطيه كل ما يطلب إذا كان فيه صلاحه، ولم يكن فيه في الحد الأدنى فساد له، كما لو أن أحداً ما كان في زيارة شخص عزيز وكريم، وطلب منه أن يسقيه عصيراً معيناً فيقدمه له. أما لو طلب سُمَّاً، فلا يعطيه إياه، لأنه يلحق به الضرر ويعرضه للخطر، حيث إن مقتضى الكرم والجود، أن لا يعطيه ما يؤذيه. وأيضاً على سبيل المثال، إذا كان لأحدنا ولد صغير، وطلب سكيناً، هل نعطيه إياها!؟ لا، لن نعطيه إياها حتى لو بكى، لأنه سوف يؤذي نفسه. وإذا رفض الدواء وبكى، نجبره على شرب الدواء رأفة ورحمة وتلطفاً به. ونحن بدورنا قد نطلب من اللَّه أحياناً أشياء نتصور لجهلنا وبعقلنا القاصر أن فيها صلاحاً لنا، ولكنه سبحانه الذي يعلم الحقائق والمستقبل والغيب، يعلم أن في هذا الشيء ضرراً لنا فيحجبه عنا. وهذا ما نراه في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: "ولعل الذي أبطأ عني، هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور".
قد يستعجل الإنسان النصر، ولكنه تعالى لعلمه بالغيب يؤجله سنوات، لأنه سيكون فيه فلاح كبير. وأيضاً يمكن أن يكون الإنسان مريضاً فيستعجل الصحة والعافية، ولكن اللَّه ربما يؤخرها له لأنه يرى أنه إذا أعطاه الصحة الآن، فسوف يرتكب هذا الإنسان في عافيته ما فيه خسران الدنيا أو الآخرة. وفي بعض الروايات أن اللَّه سبحانه يختار لعبده ما يصلح له. فبعض الناس لا يصلح لهم إلا الفقر، ولو جعلهم اللَّه أغنياء، لعاشوا شقاء الدنيا ووقعوا في شقاء الآخرة، فيبقيهم فقراء، ولو ظلوا كل عمرهم يدعونه ليغنيهم ويرزقهم. وهناك بعض الناس، لا يصلح لهم إلا الغنى، فيبقيهم أغنياء. وبعض الناس، لا يصلح لهم إلا المرض، وبعضهم لا يصلح لهم إلا العافية والصحة. هنا، يجب أن نلتفت إلى أن اللَّه عزَّ وجلَّ رؤوف ورحيم بنا. فربُّنا، هو الذي يربينا، ويتولى أمرنا وشأننا، ولا يكلنا إلى أنفسنا، وإلا هلكنا. ولذلك، هو أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، وبالتالي يعطينا ما يصلح لنا.
* "فاسألوا اللَّه ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه":
هذه الأيام والليالي والساعات خاصة جداً، يقبل اللَّه ويستجيب فيها ويصفح ويعفو فيها. لذلك، يجب أن نستنفدها حتى اللحظة الأخيرة. فاطلبوا كل شيء. ومن جملة ما نطلبه، في الأيام الأولى خصوصاً، أن يوفقنا لصيامه لأن الصوم هنا واجب، "وتلاوة كتابه" وهو أمر مُستحب ومؤكد، بل من أهم الأعمال في شهر رمضان المبارك. فتلاوة آية أو سورة أو ختم القرآن له آثار وبركات عظيمة تتجاوز هذا الفعل في غير شهر رمضان.
* "فإن الشقي من حُرم غفران اللَّه في هذا الشهر العظيم":
فإذا كنت مثلاً من المذنبين والعاصين والخاطئين والآثمين والأشقياء وهلَّ عليك هلال شهر رمضان وكنت من المسلمين الذين دُعوا إلى ضيافة اللَّه ودخلت في ضيافته ولم تطلب غفران الذنوب والصفح عن الخطايا والتجاوز عن السيئات ومحو الآثام ولم تحصل على هذا العفو والصفح، فمعنى ذلك، أنك الشقي الحقيقي. عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال إن مهمة شهر رمضان الأساسية إنهاء الذنوب وشطبها ومحوها، حيث يقول صلى الله عليه وآله في بعض الروايات: "إنما سُمِّيَ رمضان لأنه يرمض الذنوب" وكلمة يرمض في اللغة تعني يحرق أي يحرق الذنوب. ولذلك "فإن الشقي هو من حُرم غفران اللَّه في هذا الشهر العظيم". وهذا حافز أساسي ورئيسي إلى أن نغتنم هذه الساعات والليالي والأيام، لنحصل على هذه المغفرة ونعوذ باللَّه وبكرمه وبجوده. أما أن يهلَّ علينا هلال شهر شوّال وينتهي شهر رمضان ولم يُغفر لنا ولم يُصفح عنا، فتلك مصيبة كبيرة جداً علينا. فإذا لم نطلب أن يُغفر لنا، فهذا يعني أننا لسنا لائقين، وأن وضعنا سيئ جداً إلى الحد الذي لم نستحق فيه أن يتطلَّع إلينا اللَّه تعالى بنظرة رحيمة ويغفر لنا ذنوبنا، وهذا هو الشقاء.
* "واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه":
أي أن العطش والجوع في شهر رمضان، يجب أن يذكرنا بالعطش والجوع يوم القيامة. وتقول بعض الروايات إن العطش والجوع الأكبر هو في يوم القيامة، وهذا العطش والجوع في هذه الدنيا ليس عطشاً وجوعاً، بل لهو كما الدنيا كلها ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ لا عطشها عطش، ولا جوعها جوع، ولا ألمها ألم، ولا فرحها فرح، ولا لذتها لذَّة، ولا سعادتها سعادة، ولا حزنها حزن، ولا فقرها فقر، ولا غناها غنى، ولا جاهها جاه. إن الألم واللذة والعذاب والنعيم والعطش الحقيقي والجوع الحقيقي هو في الآخرة. في بعض الروايات أنه عند الحشر في صحراء المحشر تُبدَّل الأرض غير الأرض، ويبرز الناس للواحد القهار بالمليارات في صفوف منتظمة ومكتظَّة. وكل واحد يقف خائفاً مرعوباً وقلقاً من أهوال يوم القيامة وما شاهده قبل البعث وأثناءه وبعده، ويكون كل فرد مشغولاً بنفسه. وفي ذاك الموقف الطويل المهول الذي لا نعلم كم يستمر قبل أن ينتهي الحساب ويدخل أهل النار إلى النار وأهل الجنة إلى الجنة، ليس هناك طعام أو شراب. نعم في الساعات واللحظات الأولى قد يُذهل الإنسان عن عطشه وجوعه، ولكن عندما يمتد به الزمن، يشعر بألم الجوع والعطش والآلام الأخرى. القرآن الكريم يحدِّثنا عن أهل النار الذين يطلبون الطعام والشراب و ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيع﴾. هم يشعرون بالجوع والعطش الشديد، ولكن ما يعطونه لا يسد عطشهم ولا جوعهم، بل يزيدهم عذاباً وعطشاً وجوعاً. وينبغي عندما نتذكر عطش وجوع يوم القيامة، أن نتذكر كل أهوال هذا اليوم، فالجوع والعطش هما من تفاصيل أهوال ذاك اليوم وما يواجهه الإنسان.
والنبي صلى الله عليه وآله يعلمنا أن من أهم الوسائل التربوية والروحية والنفسية التي تبعد الإنسان عن المعصية وتساعده على تزكية وتطهير وتنقية نفسه، هي ذكر أهوال يوم القيامة، فمن يتذكَّر الوقوف الطويل بين يدي اللَّه عزَّ وجلَّ، وأن هناك كتاباً يحصي عليه كل صغيرة وكبيرة وسوف ينشر ويعطى له يوم القيامة، ومن يتذكر أن مصير العاصين والخاطئين والمذنبين هو النار، وأن مصير المطيعين والعابدين الذين يردعون أنفسهم عن الاستماع الحرام والكلام الحرام والنظرة الحرام والفعل الحرام هو الجنة التي فيها "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" من يتذكر ذلك يردعه عن فعل المعصية ويشجِّعه على فعل الطاعة. وعلى هذا، فإن كل يوم من أيام شهر رمضان هو يوم تزكية وتنقية وتربية. وطالما نحن في الصوم والعطش والجوع، يجب أن يبقى حاضراً أمامنا ذلك اليوم العظيم، يوم القيامة، وما وعد اللَّه به المؤمنين، وما توعَّد به العاصين والخاطئين. وينبغي أن يشكِّل ذلك مانعاً ورادعاً ومربياً لنا نحن خلال الثلاثين يوماً. إذا تذكرنا ذلك، فتدريجياً نخرج من هذا الشهر وقد تربينا على ضبط أنفسنا وعلى الإمساك بأنفسنا الأمارة بالسوء، ومنعناها من السيطرة علينا، بل يمكن أن نخرج من هذا الشهر بأنفس زكية نقية وقلوب طاهرة، وكتبٍ قد شُطبت منها كل الذنوب واستبدلت فيها السيئات بالحسنات، وهذا أعظم ما يمكن أن يحصل عليه إنسان مؤمن حلّ ضيفاً على رب كريم عظيم في شهر ضيافة اللَّه وكرامة اللَّه. أسأل اللَّه تعالى الاستفادة من أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأن يوفقنا للعمل بما علمنا وعرفنا، وأن نستفيد من هذه الفرصة بالدعاء والصلاة وقراءة القرآن والقيام بكل الأعمال الأخرى.
(*) مقتطف من سلسلة محاضرات ألقاها سماحة السيد حسن نصر الله في مجمع القائم عجل الله فرجه.