غادة عيسى
تكلمنا في العدد السابق عن جريمة تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف، محددين أركان هذه الجريمة ومفهوم التعذيب والأسباب التي تحمل السلطة على اللجوء إليه، ثم انتقلنا إلى عرض صور التعذيب وأساليبه التقليدية منها والحديثة...وفي هذا العدد سنتابع معالجة هذا الموضوع، لنبحث في المسؤولية المترتبة على هذه الجريمة، من خلال تبيان حق المتهم في الدفاع عن نفسه والادعاء ضد مرتكب الجريمة من جهة، وتحديد الجزاء المترتب عليها من جهة أخرى... •فهل يحق لمن صدر الأمر بتعذيبه أن يلجأ إلى مقاومة هذا الأمر، محتجاً بحقه في الدفاع المشروع؟ الدفاع المشروع هو استعمال الوسيلة الكفيلة لرد اعتداء غير محق وغير مثار، يتعرض له شخص في نفسه أو ملكه.
إلا أن المواد 379-382 من قانون العقوبات اللبناني تعاقب كل من هاجم أو قاوم بالعنف موظفاً يعمل على تطبيق الشرائع أو الأنظمة... يستنتج من ذلك أنه على المواطن إطاعة ممثلي السلطة وعدم جواز مواجهة ممثل السلطة بالعنف وبالتمرد. ولكن هذه القاعدة تطبق في الحالة التي يعمل فيها الموظف على "تطبيق القوانين والأنظمة" وعندما يتسم عمله "بالصفة الشرعية"، أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك، أي عند تجاوزه لهذه الحدود، كالأمر بالتعذيب الذي ليس من واجبات الوظيفة ولا يوفر حسن النية، فيصبح المتهم بوضع المعتدى عليه وله حق الدفاع عن نفسه ومقاومة هذا الأمر بالقدر اللازم والمتناسب مع الاعتداء. من له حق إقامة الدعوى ضد مرتكب جريمة التعذيب؟
المبدأ هو أنه يحق لكل متضرر من جريمة ما تحريك الدعوى العامة بتقديمه شكوى مباشرة أمام محكمة الدرجة الأولى أو إلى قاضي التحقيق يتخذ فيها صفة الادعاء الشخصي، وبالتالي يطالب المدعى عليه بالتعويض. إلا أن هناك استثناءات على هذا المبدأ، منها أنه لا تجوز ملاحقة الموظف إلا بناء على موافقة الإدارة التي ينتمي إليها، إذا كان الجرم ناشئاً عن الوظيفة، بيد أن الضابط العدلي الذي يقدم على ضرب أو تعذيب من يستجوبه أو يحاول انتزاع الإقرار منه باستعمال العنف، يكون قد أتى عملاً شخصياً لا تفرضه واجبات وظيفته، فلا يؤلف عمله جرماً منبثقاً عن الوظيفة وإن ارتكبه أثناءها أو في معرض ممارستها، وبالتالي لا يتمتع بالحماية التي أوجدتها النصوص القانونية المرعية، لأنه تجاوز حدود الوظيفة التي تمنع عليه مثل هذه الإجراءات غير المشروعة. لا سيما وأن هذه الأعمال تشكل اعتداء على الحريات العامة والحقوق العامة المحمية والمكرسة في الدستور. لا بل أكثر من ذلك، يجب في حال لم يتقدم المتهم بادعاء شخصي على من يدعي أنهم قاموا بتعذيبه، وانتزاع اعترافات منه بالعنف والإكراه، يجب على النيابة العامة أن تتحرك تلقائياً للتحقق من ادعاءاته، وبالتالي حماية المتهم من تكرار ما تعرض له، في حال ثبتت صحة أقواله...
•ما هو مصير الاعتراف المبني على التعذيب؟ وما هي العقوبة المفروضة على مرتكب هذه الجريمة؟
إن الاعتراف الذي يعتبر قرينة على إدانة المتهم هو ذلك الاعتراف الصادر عن إرادة حرة واعية محررة من الخلل النفسي أو العقلي. أما في حالة تعذيب المتهم، فالأمر مختلف تماماً؛ إذ التعذيب هو وجه من أوجه الإكراه المعيب للإرادة، وبالتالي يترتب عليه بطلان الاعتراف وفساد النتائج التي تم التوصل إليها عملاً بقاعدة "ما بني على باطل فهو باطل". وبطلان الاعتراف الناتج عن التعذيب هو بطلان مطلق لا يجوز التنازل عن التمسك به، ويجب على المحكمة متى استشعرت عدم نزاهة الدليل أن تقضي ببطلانه من تلقاء نفسها، لأنه يطال حسن سير العدالة وإحقاق الحق. وفضلاً عن بطلان الاعتراف وهو يمثل الجزاء الاجرائي لجريمة تعذيب المتهم فهناك جزاء جنائي لهذه الجريمة. ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال المادة 401 من قانون العقوبات اللبناني، التي حدّدت عقوبة هذه الجريمة بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات.
أما إذا أفضت أعمال العنف إلى مرض أو جراح، كان أدنى العقاب الحبس سنة. إن حظر التعذيب منصوص عليه في أغلب إن لم نقل في جميع دساتير العالم، وفي الاتفاقات الدولية الرئيسة لحقوق الإنسان التي تتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، مثال المادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة السابعة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب، والبروتوكول الاختياري الملحق بها لعام 2002، والمادة الثالثة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والمادة الخامسة من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، والمادة الخامسة من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، والمادة السابعة من نظام روما... إلا أن سن القوانين التي تحرم التعذيب وتجرمه لا يكفي وحده لمنع التعذيب أو القضاء عليه، لا سيما تعذيب المتهمين، بل لا بد من وجود رقابة جدية على أداء عناصر الشرطة لعملهم والتزامهم بالقانون، كما ينبغي إجراء تحقيق سريع ونزيه وفعال في دعاوى التعذيب، تتولاه هيئة مستقلة عن الجهات المتهمة بارتكابه. والأهم من ذلك كله وقبل أن يتعرض المتهم للتعذيب يجب العمل على وقاية هذا الأخير من احتمال تعرضه لهذا الأمر على أيدي من يتولى استجوابه أو التحقيق معه، من خلال إيجاد جهاز واثق بمقدرته العلمية والفنية وقادر على فرض وجوده ليس من خلال الضرب والعنف، بل من خلال الثقافة العلمية والعملية والتخصص... وهذا ما تفتقر إليه معظم الدول العربية، ومن بينها وللأسف لبنان...