الشيخ بسام حسين
اهتم أهل البيت عليهم السلام بأمر الحجّ وحثّوا الناس على قصد البيت العتيق. وقد ظهر هذا الاهتمام منهم قولاً وعملاً. فمع غضّ النظر عن الأحاديث الكثيرة التي جاءت عنهم عليهم السلام والتي تؤكد على ضرورة إحياء هذه الفريضة الإلهية الربانية، فإنّ هناك مواقف أخرى صدرت عنهم عليهم السلام تستحق الانتباه والوقوف عندها، وهي تدلّل على مدى أهميّة هذا البيت الحرام وأبعاده في مختلف الجوانب، والتي منها الجانب العبادي والسياسي والاجتماعي... وفي سيرة الإمام الحسين عليه السلام العديد من هذه الأبعاد، والتي نحاول الوقوف عند الجانب العبادي والسياسي منها:
الجانب العبادي:
وقد تمثّل هذا الجانب في سيرته عليه السلام مع البيت الحرام في أمور:
أ- المشي إلى بيت الله الحرام:
فقد جاء عن الإمام الحسين عليه السلام أنّه حج خمساً وعشرين حجّة ماشياً، وأنّ النجايب كانت تقاد معه(1). يقول بعض المحققين: "إنّها الغاية في تعظيم الحج، بالسعي إلى الكعبة على الأقدام، لا عن قلّة راحلة، بل إمعاناً في تجليل المقصد والتأكيد على احترامه. وهذا على الرغم من ازدحام سنيّ حياته بالأعمال، فلو عدّدنا سنيّ إمامته العشر، وسنوات إمامة أخيه الحسن العشر كذلك، وسنوات إمامة أبيه الخمس، لاستغرقت خمساً وعشرين حجّة.."(2).
ب- الدعاء عند البيت عليهم السلام: فقد رُؤي الحسين بن علي عليهما السلام يطوف بالبيت، ثمّ صار إلى المقام فصلّى، ثمّ وضع خدّه على المقام، فجعل يبكي ويقول: عُبيدك ببابك... سائلك ببابك، مسكينك ببابك، يردّد ذلك مراراً(3).
ج- وفي عرفة: روى بشر وبشير الأسديان أنّ الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام خرج عشيّة عرفة يومئذٍ من فسطاطه متذللاً خاشعاً، فجعل عليه السلام يمشي هوناً هوناً حتى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده ومواليه في ميسرة الجبل، مستقبل البيت، ثمّ رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين، ثمّ قال: ...الدعاء..(4). إلى غير ذلك من النصوص التي تظهر وبوضوح مدى تعظيم الإمام عليه السلام لهذا البيت من الناحية العبادية...
الجانب السياسي:
وقد تمثل في موقفه آنذاك في أمور عديدة:
منها: موقفه من السلطة الحاكمة:
فقد نقل الرواة عنه أنّه: لمّا كان قبل موت معاوية بسنتين(5) حجّ الحسين بن علي عليه السلام وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس معه، وقد جمع الحسين بن علي عليه السلام بني هاشم، رجالهم ونساءهم، ومواليهم، وشيعتهم، من حجَّ منهم ومن لم يحجّ، ومن الأنصار ممن يعرفونه، وأهل بيته، ثمّ لم يدع أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن أبنائهم والتابعين، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك إلا جمعهم، فاجتمع عليه بمنى أكثر من ألف رجل، والحسين عليه السلام في سرادقه، عامتهم التابعون، وأبناء الصحابة، فقام الحسين عليه السلام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد: فإنّ الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم، وإنّي أريد أن أسألكم عن أشياء، فإن صدقت فصدّقوني، وإن كذبت فكذّبوني، اسمعوا مقالتي، واكتموا قولي، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم من أمنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحق ويذهب، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون. فما ترك الحسين شيئاً أنزل الله فيهم من القرآن إلا قاله وفسّره، ولا شيئاً قاله الرسول في أبيه وأمّه وأهل بيته إلا رواه، وكل ذلك يقول الصحابة: اللهم نعم، قد سمعناه وشهدناه, ويقول التابعون: اللهم قد حدّثنا من نصدّقه ونأتمنه، حتى لم يترك شيئاً إلا قاله، ثمّ قال: أنشدكم بالله إلا رجعتم وحدّثتم به من تثقون به، ثمّ نزل وتفرَّق الناس على ذلك(6). ولمّا قتلَ معاويةُ حجرَ بن عدي وأصحابه، حجَّ ذلك العام فلقي الحسين بن علي عليه السلام، فقال: يا أبا عبد الله، هل بلغك ما صنعنا بحجر، وأصحابه، وأشياعه، وشيعة أبيك عليه السلام؟ فقال عليه السلام: وما صنعت بهم؟ قال: قتلناهم، وكفّنّاهم، وصلّينا عليهم، فضحك الحسين عليه السلام ثمّ قال: خصمك القوم يا معاوية(7). فإن هذه النصوص تظهر بشكل ٍ لا لَبس فيه خط المواجهة الذي كان يتخّذه الإمام عليه السلام في التعاطي مع السلطة الحاكمة آنذاك، مستغلاً أهمية الزمان والمكان
ومنها: مكة منطلق النهضة الحسينية:
تعتبر الفترة المكّية من المراحل المهمة من حركة الإمام الحسين عليه السلام، ففيها اختلف إليه الناس من أهل مكّة ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق، ومنها كتب إلى رؤساء الأخماس بالبصرة، ووافته كتب أهل الكوفة يسألونه القدوم عليهم لأنّهم بغير إمام، ومنها أيضاً بعث مسلم بن عقيل إلى الكوفة...(8). وكان قد اجتمع إلى الحسين عليه السلام مدة مقامه بمكة - وهي حوالي أربعة أشهر- نفر من أهل الحجاز، ونفر من أهل البصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه...(9). وإنّما خرج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة حفظاً لحرمتها أن تنتهك بسفك دمه. وهذه كانت سيرة أهل البيت عليهم السلام في تعظيمهم للكعبة والبيت والحرام، فإنّهم "لم يقدموا على أيّ تحرك عسكري داخل الحرم المكّي، وكذلك الحرم المدني، رعاية لحرمتهما أن يهدر فيهما دم، وتهتك لهما حرمة على يد الحكام والأمراء الظالمين، وجيوشهم الفاسدة، المعتدية على حرمات الدين، ومن أجل ذلك خرج الإمام علي عليه السلام من الحجاز، وكذلك الإمام الحسين عليه السلام، وكلّ العلويين الذين نهضوا ضد جبابرة عصورهم، وطواغيت بلادهم، خرجوا إلى خارج حدود الحرمين حفظاً لكرامتهما، ورعاية لحرمتهما... وإذا كان الظالمون لا يلتزمون للكعبة والحرم بأية حرمة، ويستعدّون لقتل النفوس البريئة فيه، وهتك الأعراض في ساحته، وحتى لهدمه وإحراقه، كما أحدثوه في تاريخهم الأسود مراراً، وصولاً إلى أغراضهم السياسية المشؤومة، فإنّ بإمكان الحسين عليه السلام أن يسلبهم القدرة على تلك الدناءة، فلا يوفر لهم فرصة ذلك الإجرام، ولا يجعل من نفسه ودمه موضعاً لهذا الإقدام الذي يريده المجرمون، فلا يحقّق بحضوره في الحرم للمجرمين أغراضهم الخبيثة، بقتله وهتك حرمة الحرم، وإن كان مظلوماً على كلّ حال. وهذه هي الغاية القصوى في احترام الكعبة، وحفظ حرمة الحرم.
وقد صرّح الإمام الحسين عليه السلام بهذه الغاية لابن عباس، لمّا وقف أمام خروجه إلى العراق، فقال: لئن أقتل بمكان كذا وكذا، أحبّ إليَّ من أن استحلّ حرمتها، وفي نص آخر:..أحبّ إليَّ من أن يستحلّ بي ذلك، والنص الوارد في نقل الطبراني:... أحبّ إليَّ من أن يستحلّ بي حرم الله ورسوله، وهذه مأثرة اختصّ بها أهل البيت عليهم السلام لا بدّ أن يمجدها المسلمون"(10). وهناك الكثير من المحطَّات في سيرة الإمام الحسين عليه السلام في مكة لا يمكننا استقصاؤها في هذه العجالة...
(1) ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب، ج3،ص224.
(2)الجلالي، السيد محمد رضا: الإمام الحسين سماته وسيرته، ص 92.
(3) الريشهري، محمد: أهل البيت في الكتاب والسنة، ص 286.
(4) المجلسي: بحار الأنوار، ج 95،ص 214.
(5) في بعض المصادر "بسنة".
(6)الطبرسي: الإحتجاج، ج 2، ص 18- 19.
(7)المصدر السابق، ص 19- 20.
(8) أنظر: المقرَّم، السيد عبد الرزاق: مقتل الحسين عليه السلام، ص 141- 146.
(9) المفيد: الإرشاد، ج 2، ص 66.
(10) الجلالي، السيد محمد رضا: الإمام الحسين عليه السلام سماته وسيرته، ص 92- 93.