آية الله العظمى السيد علي الخامنئي
1- فلسفة النبوّة
ما هو داعي الأديان الإلهية وفلسفة النبوات التي تحمل معها إبلاغ البرامج السماوية؟ ما هو مفهوم النبوة وما علاقتها بالبعثة؟ ما هي أهداف النبوة والبعثة؟
من أين تبدأ حركة الأنبياء؟ وإلى أين تنتهي؟ و؟ و؟
هذه الأسئلة وغيرها ترتبط بالمسائل والمواضيع الأساسية والحساسة في "أصل النبوة"، وبالاطّلاع عليها يصل الإنسان إلى الإيمان الثابت والالتزام العميق، والقرآن الكريم يجيب عنها بعرض مختصر وببيان عميق وكامل.
فلسفة النوبة- إن الحواس الظاهرية، والغرائز المخفية، وأعلى منها: العلم والمعرفة التي توالت عليها البشرية: كل هذه لا يمكن أن تهدي الإنسان إلى السعادة.
فالإنسان يحتاج إلى هداية أعلى من هداية العقل- تقود العقل وتصونه وترفعه- وهي هداية الوحي.. وحي الله الذي خلق الإنسان، والذي عنده كل ما ينقصه ويحتاج إليه ويشفي آلامه وأسقامه.. هذا هو منطق جميع الأديان العالمية وهو فلسفة النبوة.
وبموجب هذا الاحتياج يُبعث النبي، ويطبق البرامج التي يتوق إليها الإنسان.
ويمكن أن نشاهد هذه الحقائق بوضوح في طي هذه الآيات القرآنية:
﴿كان الناس أمّةً واحدةً فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم. فهدى الله الذين آمنوا واختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم﴾. (البقرة: 214)
﴿يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأُميّين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين، وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم﴾. (الجمعة: 1-5).
2- البعثة في النبوة
النبوة بعثة، وهي تعني النهوض والقيام بعد السكون والهدوء، وتكون هذه البعثة في البداية في باطن النبي ونفسه، ثم تنتشر بعد ذلك في محيطه وفي العالم.
والنبي هو الإنسان القادر على تحمل ثقل المسؤولية العظيمة من خلال الاستعدادات الفائقة والتي هي أعلى من الأمور العادية. ولكن إلى ما قبل البعثة تكون هذه الاستعدادات في القوة والخفاء. ويكون النبي مثل الأفراد العاديين في مسيرة الحياة الاجتماعية. فيوجد الوحي الإلهي فيه تحولاً وانقلاباً فيبعث في روحه ويصبح مبعوثاً..
وهذه آيات سورة "الضحى" القصيرة المليئة بالبشارة تدون بداية البعثة في باطن النبي العظيم وروحه: ﴿والضحى والليل إذا سجى ما ودّعك ربك وما قلى وللآخرة خيرٌ لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيماً فأوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى...﴾.
وهذا البعث الباطني- الذي أثر في جسد النبي وأعصابه أيضاً- يبدأ مع بدايات نفحات الوحي التي نقرأها في سورة "العلق": ﴿إقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* إقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم* كلا إن الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى..﴾.
وكذلك ما نجده في الآيات الموزونة من سورة "النجم" من إشارة إلى هذا التحول الباطني: ﴿والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى علّمه شديد القوى ذو مرةٍ فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى﴾.
أجل، فبعد هذه البعثة الباطنية التي غيرت طريق النبي وأعطت لسعيه لوناً آخراً، ليكون تحت عنوان الجد والجهاد المستمر حتى يوجد في المجتمع وفي صلب الحياة الإنسانية بعثة وتحولاً أصيلاً.
وهذه هي مسؤولية الرسالة..
3- البعثة الاجتماعية للنبوة
يظهر النبي في وضع اجتماعي سيء ومنحرف، للإصلاح والهداية والدعوة المنسجمة مع الفطرة الإنسانية، ولرفع المجتمع البشري وسوقه إلى التكامل، فهو الذي يظهر الحق على الباطل.
والإنسان الذي يمتلك فطرة منسجمة مع العالم، إنما يكون في مسيرته الطبيعية والفطرية (التي هي طريق تكامله) عندما يجعل نفسه في مسيرة نظام الفطرة العالمي والإنساني، ويديرها من خلال التعاليم المتناسبة مع بنائه الروحي والجسمي. وعندها يتجه نحو العلو والكمال اللائق له.
وكانت يد الجهل والإعراض طوال التاريخ تسد طريق الإنسانية ومن خلال فرض الأنظمة المخالفة للإنسانية كان البشر يحيدون عن صراط الفطرة، وكان الأنبياء يقفون أمامهم ليرجعوهم إليه.
ومن هذا البيان يعلم أن على النبي أن يحدث تغييراً أصيلاً وشاملاً لجميع جوانب وأبعاد الحياة ويبدل النظام الاجتماعي الجاهلي والمنحرف إلى نظام صحيح وعادل. وهذه هي البعثة التي تحدث في المجتمع بعد بعثة النبي. ومن خلال هذه البعثة العظيمة تزول كل السنن والبرامج والقوانين والعادات الجاهلية، ليحل محلها النظام الصحيح والدين القويم الذي هو دين الله.
فلننظر إلى الآيات الأولى من سورة القصص بتدبر.. حيث نشاهد تلك الأفكار العامة حول النظام اللاإنساني لفرعون وفي مقابلة النظام الإلهي والفطري الذي يطرحه موسى بديلاً: ﴿تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون أن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفةً منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون﴾.
وفي عدة آيات قرآنية، وبلهجة وأسلوب مشابهين، يذكر ضرورة غلبة دين الله على سائر الأديان. وهو معنى استقرار وقيام النظام الإلهي (وقد تكرر هذا الأمر في عدة سور، كسورة التوبة والفتح والصف). وهنا نذكر عدة آيات من سورة الصف: ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾.