* أهداف النبوة
علمنا أن النبي في واقعه الاجتماعي هو الذي يحدث بعثة جديدة ونهضة حقيقية ويحطم بحركته الشريفة كل بناء الجاهلية. ولكن، ما هو الهدف من هذا العمل؟
إن أعظم وأسمى هدف للأنبياء هو تخليص الناس من مستنقع الدنيا وفسادها من خلال تفجير ينابيع القابليات المودعة في أعماقهم ليوصلوهم إلى أعلى مراتب الترقي والكمال الإنسانيين.
فالإنسان قد خلق بالأبعاد الغنية الفياضة للجمال والفضيلة، ولكن السير في قناة التربية الصحيحة هو الكفيل بإبراز هذه الأبعاد وإخراجها إلى ساحة الظهور وإيصال الإنسان إلى الكمال. فهدف بعث الأنبياء في النهاية، أداء هذه التربية والبناء والتي جاء التعبير عنها في القرآن: "بالتزكية" "والتعليم". فالإنسان يصل إلى الفوز والصلاح من خلال متابعة تربية الأنبياء، ويصل إلى الهدف النهائي الذي خلق لأجله.
ولأجل أن يتمكن البشر من الاستفادة من المواهب الطبيعية التي أودعت في خلقتهم ويصلوا بعدها إلى الكمال، ما هو الطريق الذي يجب أن يسيروا عليه؟
فمن بين الأجوبة المختلفة يبرز جواب الأنبياء وهو تأمين المحيط السالم والمنسجم مع البناء الطبيعي للإنسان. وهذا المحيط هو "المجتمع التوحيدي الإلهي العادل". وبالدخول في مثل هذا المجتمع، تسهل حركة الإنسان ويسرع إلى الهدف النهائي الذي خلق لأجله.
فالأنبياء والرسل يسعون لتحقيق هدف آخر في منتصف الطريق للهدف النهائي، وهو إقامة النظام التوحيدي والإسلامي، في المجتمع على أساس العدل والتوحيد وكرامة الإنسان بعيداً عن الظلم والشرك والخرافات والجهل وكل أمر دنيء..
ومن خلال التدبُر في الآيات التالية نقف على الحقائق المذكورة:
﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز﴾ (الحديد: 25).
﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف: 156- 157).
* أول نغمات الدعوة
في دعوة الأنبياء فإن أول شعار هو دعوة التوحيد التي هي أكثر النقاط حساسية وأهمية- بل هي الروح الأصلي في مدرسة الأنبياء.
وإذا كنا نشاهد في البرامج الثورية للمدارس الأخرى أن سياق العمل يقوم على أساس "التدرّج" وتكون الشعارات في البداية لأجل الوصول إلى أهداف أخرى في النهاية، فإن الحديث في برامج الأنبياء يكون في البداية هو نفسه الذي يقال في النهاية، وكل من يؤمن في البداية سوف يتعرف على الهدف والمقصد ويتجه نحوه بكامل البصيرة والوعي.
أولئك الذين عايشوا بدايات دعوة الأنبياء وآمنوا بها أو أولئك الذين تمردوا عليها وأنكروها، كانوا يعلمون جيداً أشكال التسلط البشري والاختلاف الطبقي والاستغلال والظلم، وكذلك كانوا يريدون أن يحققوا البناء الاجتماعي وفق حرية الإنسان وكرامته وعلى أساس العدل الاجتماعي والرفاهية العامة...
وهذا ما كان يحدد هدف مدرسة الأنبياء وطريقهم، ويحدد أيضاً طبيعة المعارضين والأعداء. وكذلك فإن طريق الالتزام وتحمل المسؤولية والارتباط كانت تتضح لكل من يأتي بعد الأنبياء مما يمنع من حصول الانحراف في المسلك والعقيدة.
والقرآن الكريم يذكر "العبودية لله" و"اجتناب الطاغوت في موارد عديدة كأول شعار الأنبياء. وهو التوحيد:
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (النحل: 36).
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (الأعراف: 59).
﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ * أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾ (الأعراف: 65- 71).
* الفئات المعارضة
علمنا أن البعثة هي عبارة عن نهضة اجتماعية تحدث تغيراً عميقاً وجذرياً في المجتمع الصالح والطبقات المحرومة والمظلومة. وتهدد مصالح الطبقات المرفهة وامتيازاتها. وهذا الحديث يوصلنا إلى فصل حساس جداً من أبحاث النبوة- وهو أهم الأبحاث التي تطرح فيها من إحدى الجهات. وهو فصل الصراع والمواجهة.
ومن الواضح الجلي أن دعوة المواجهة والوقوف مقابل امتيازات الطبقات لم تكن في يوم من الأيام وفي أي نقطة من العالم وعبر التاريخ محل قبول الجميع، أو لنقل أن المدافعين عن الطبقات المحرومة كانوا يواجهون مباشرة من تلك الطبقات التي ترى في حركاتهم تهديداً لهم. وهذا هو منشأ المواجهات والصراعات التي جرت بين الخطين.
ولهذا السبب أيضاً طرحت العشرات من المسائل المهمة حول النبوة (وسوف نشير إلى بعضها).
والآن لكي نتعرف على هذه الفئات بالتفصيل نرجع إلى القرآن الكريم.. فالقرآن يذكر في موضع وبلغة عامة وجود المعارضين لدعوة الأنبياء.
وفي موضع آخر يذكر ثلاثة أسماء هي عناوين الطبقات الثلاث (فرعون، هامان وقارون نماذج طبقة الحاكم، والرجال والقادة وأخيراً الأشراف والمترفين). وفي مواضع أخرى يذكر هذه الطبقات الثلاث ويضيف إليهم طبقة أخرى هي طبقة رجال الدين ليصبحوا أربع طبقات وهم:
1- الطاغوت- 2- الملأ- 3- المترفين- 4- الأحبار والرهبان.
والآيات التالية نموذج لعشرات الآيات التي تحدثت في هذا المجال:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴾ (الأنعام: 112: 113).
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَال﴾ (المؤمن: 23- 25).
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ (سبأ: 34- 35).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم﴾ (التوبة: 34).