الشيخ تامر محمد حمزة
مريم الطهر والاصطفاء:
لقد تحملت مريم أعباء الإقامة في الهيكل بعيدة عن زخارف الدنيا وزبارجها، وصبرت على مرارة تصرفات رجالاته، بغية العبادة والإنقطاع إلى الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِين﴾ (آل عمران: 43). فالتزمت أوامره بكل صدق حتى بلغت مرتبة الطهر من كل رجس، واصطفاها على جميع نساء زمانها ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 42). فالانقطاع إلى الله سبحانه سبيل الإصطفاء والتنزه عن كل رذيلة يؤدي إلى الطهارة (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ (التحريم: 12). ومن حاول النيل منها، فقد بهتها وكفر ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيما﴾ (النساء: 156). وقد أجهدوا أنفسهم في سبيل إسقاطها وأرادوا هوانها وأراد الله إيوائها فجعلها آية من آياته فكانت كما أرادها الله وفوق ما أرادها الناس ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا﴾ (المؤمنون: 50).
عيسى عليه السلام كلمة الله:
الكلمة إما إعتبارية وإما تكوينية: فالأولى هي كل كلمة ينطق بها لسان البشر، والثانية هي حقيقة الإيجاد بالفعل. ومن مصاديق الكلمة التكوينية عيسى بن مريم، الذي هو كلمة الله إلى مريم حين بشرتها الملائكة بولدها عيسى ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ (آل عمران: 45). وفي آية أخرى، يقول المولى عز وجل: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ﴾ (النساء: 171). فكانت الملائكة هي الواسطة في حمل البشرى، كما يشير إليه صدر الآية المباركة بقوله: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾.
حوارات ومفاجآت:
الأولى: بين مريم والملك:
هجرت مريم عليها السلام أهلها وانتبذت منهم مكاناً شرقياً، ووضعت بينها وبينهم حجاباً حتى وجدت نفسها أمام روح تمثل لها بشراً، فداخلها خوف، فاستعاذت بالرحمن منه إلى أن أعلمها أنه رسول الله إليها ليهب لها غلاماً زكياً، وكانت المعجزة بحملها من دون أن يمسسها أحد من البشر.
الثانية: مريم ومولودها الجديد:
بعد أن نأت مريم بنفسها بعيدة عن مجتمعها الذي لم يحمل إليها إلا الظلم ولا ينظر إليها إلا بعين الريب والشك، عاشت صراعاً داخلياً أنه كيف تبرئ نفسها وتثبت طهارتها لقوم لطالما حاربوها ولم يؤمنوا إلا بالمادة والماديات؟ وما هو السبيل إلى إقناعهم بأن حملها هو نفخة من روح الله سبحانه وتعالى؟ ولذا، تمنت الموت، بل تمنت أنها لم تك في ذاكرة أحد من البشر حفاظاً على نقائها وصفائها. ففي هذه الحالة المحرجة، جاءها الفرج مع المخاض واليسر مع عسر الولادة، وزال ما بها من حزن ونسيت كل شيء وأقرّت عينها بنداء مولودها الجديد وكفاها كل غم ينتظرها مع قومها.
الثالثة:مريم وقومها:
تركت مريم قومها بنتاً وعادت أماً بخطى ثابتة وبين يديها زبدة طهارتها وخلاصة نزاهتها، فسمعت منهم ما كانت تنتظر من افتراء وخاطبوها بتاريخ أبيها وأمها، وخاطبتهم بالإشارة إلى مولودها، فما زادهم إلا استهزاءً بها واستضعافاً لقدر الطفل الصغير، حتى وجدوا أنفسهم أمام المعجزة الكبرى، وانقطع الخطاب بقوله لهم "إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبياً مباركاً" أحفظ وصية ربي في الصلاة والزكاة والبر بوالدتي، فقوله هو "قول الحق الذي فيه يمترون".
عيسى عليه السلام هو عبد الله سبحانه وتعالى:
إن المجتمع الذي ولد فيه عيسى بن مريم كان غارقاً في ضلال الشرك وظلام المادة، فاستعبد أحبارهم ورهبانهم الناس يأكلون أموالهم بالباطل، وبالمقابل اتخذ الناس أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، حتى طغى الظلم وعمّ الفساد كل زاوية في المجتمع. وتجذر ثقافة الشرك في أذهانهم وترسخها في نفوسهم أدى إلى الاعتقاد بألوهية عيسى أو أنه ابن الله، كما حكى ذلك القرآن الكريم: ﴿َقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَم﴾ (المائدة: 17)، وقال: ﴿وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ﴾ (التوبة:30). أمام هذا البحر المتلاطم من الفساد، جاء عيسى عليه السلام ليعمل على التغيير بإزالة الشرك من عقول وقلوب الناس. وهذا ما يمكن أن نستشفه من استنطاق القرآن الكريم، إما من خلال أول كلمة نطق بها مع قومه، حيث قال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ (مريم: 30) أو عقيب الاستفهام الإنكاري، حيث يقول الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ (المائدة: 166)، أو من خلال بيان طروء الفناء عليه بعد الاعتقاد بعدم هلاك الإله أبداً، كقوله تعالى: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ (المائدة: 17)، أو من خلال دعوة الناس ككل الأنبياء إلى عبادة الله الواحد الأحد، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ (المائدة: 72). إلى غير ذلك من الموارد التي تثبت الربوبية لله فقط.
المسيح ابن مريم عليه السلام:
من جملة الأساليب الجمالية في التعابير القرآنية حين الحديث عن النبي عيسى عليه السلام، ويعتبر في الوقت ذاته من خصوصياته أيضاً، إذ كلما ذكر عيسى أضافه إلى أمه، إلا في ثلاثة موارد من أكثر من ثلاثين مورداً في القرآن لينبه إلى مسألتين أساسين:
الأولى: أن عيسى مخلوق وليس بإله، وثانياً: للتأكيد على المعجزة في خلقه وتطهير أمه من كل رذيلة.
المسيح عليه السلام صاحب رسالة:
كما نعتقد قطعاً لا يداخله شك أن عيسى هو نبي من الأنبياء ومن الرسل وأولي العزم وصاحب أحد أهم الكتب السماوية وهو الإنجيل، وهذا ما أكده القرآن الكريم في موارد متفرقة من السور المباركة. أما كونه نبياً، فيدل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ (الأحزاب: 7). وأما كونه رسولاً فالآيات عديدة منها قوله تعالى: ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ (المائدة: 75). ومنها ما ذكره القرآن على لسانه وهو يخاطب قومه: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم﴾ (الصف: 6). وأما أنه صاحب كتاب، فدليله من القرآن هو قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ (البقرة: 256). وأما كتابه الإنجيل فيدل عليه ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيل﴾ (الحديد: 27). والجدير ذكره أن القرآن الكريم حينما يذكر أهل الكتاب يستهدف جزءاً منهم في خطابه أتباع عيسى، وما هذا إلا لأنهم يتبعون رسولاً نزل عليه كتاب مقدس.
أنصار عيسى عليه السلام وصفاتهم:
بعد مسيرة طويلة من التبليغ لرسالة الله مع كل ما فيها من معاناة وصعوبات، استطاع النبي عيسى عليه السلام الأخذ بيد مجموعة ممن آمنوا به واتبعوه متبصرين بمصيرهم الذي ينتظرهم، بالرغم من وعورة المسير وكثرة الأشواك في الطريق، فهم أنصاره الذين اصطلح عليهم القرآن الكريم بالحواريين، حيث يقول: ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ﴾ (الصف: 14). وقد وصفهم القرآن الكريم بأجمل وصف، حيث قال عنهم: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ (الحديد: 27). إلى أن بلغوا مرتبة التأييد الإلهي لهم ونصرهم حتى أظهرهم على عدوهم، حيث قال: ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ (الحديد: 27). وقال: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ (الصف: 14).
بشرى عيسى عليه السلام بمحمد صلى الله عليه وآله:
فكما أن النبي يحتاج إلى معجزة للتدليل على صدق مدعاه، فكذلك يدل على نبوته تبشير النبي السابق له به، وهذا ما جرى مع النبي عيسى عليه السلام، حيث بشّر الأمة كلها بنبوة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله، حيث قال القرآن على لسانه: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (الصف: 6). عيسى عليه السلام والحجة الكبرى على أتباعه: كما نعتقد أن النبي عيسى لم يمت ولا زال حياً، وقد رفعه الله إليه، على خلاف ما يعتقد به البعض من أنه قتل بعدما عمد أعداؤه إلى صلبه وقتله. وهنا تعلقت المشيئة الإلهية، حيث شبه لهم بأنه هو النبي عيسى، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ (النساء: 157). ﴿بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء: 158).
وبطبيعة الحال، سوف لن ينقطع السؤال: لماذا رفعه الله تعالى إليه وإلى متى؟ ففي الجواب نقول: إنما رفعه ليكمل مسيرته الطويلة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وليكون حجة على أتباعه، وسيبقى كذلك إلى أن يظهر الله تعالى وليه الأعظم في الأرضين الإمام الحجة بن الحسن لإقامة العدل. وهذا ما نفهمه من الروايات الكثيرة وأنه سيصلي خلف قائم آل بيت محمد عليهما السلام في القدس الشريف. ﴿إِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ (النساء:159).