أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

قصة العدد: في القلب... موقعها

ولاء إبراهيم حمود

 



إليهما معاً، وقد بكى أحدهما ألماً، عندما بكى الآخر ندماً، في موقفٍ قاسٍ، لم يشهده سواي... أمام عين الله سبحانه. ولأن تلك الدموع الشجاعة مسحت أثر ذلك الموقف، أبقيه طيّ الكتمان. فالحدث الذي أنتجه؛ هو الأهم، وهو ما أقدمه "لزهراء" الغالية، وأستاذها الرسالي، وكلّ من يشاركهما عشق تراب جنوبنا الحبيب، وفلسطين العزيزة.

إمتعضت "زهراء" عندما اضطرت للوقوف تحيةً، للأستاذ الذي توسَّط الصفَّ فجأةً، وأعلنت لرفيقتها: "ما الذي أتى به الآن؟ ألا تكفينا إهاناته القاسية أثناء مراقبته لنا في الملعب"؟ لم تستطع رفيقتها الرد عليها، لأن صوته المرتفع بحدَّة، استدعاها إليه سائلاً: "ألم تكفِك "الفرصةُ" لإنهاء ثرثراتك...؟ قفي هنا!" وأشار إلى زاويةٍ قرب اللوح. إمتثلت "زهراء" وأخفت في زاوية منفاها الجديد، دمعتين انحدرتا قهراً من عينيها الخضراوين، وقررت عدم المشاركة في حصة ارتبطت بدايةً بما قبلها، لأن هذا الأستاذ يملك في فمه كما يبدو شفرةً حادةً، لا لساناً بشرياً. وسمعته يسأل عن الحصة والمادة، فتطوعت "ريم": "لدينا جغرافيا يا أستاذ!

أين الآنسة غادة"؟ ـ
"إنها غائبة، وسأعطيكم بالنيابة عنها، هل تحسنون رسم خارطة لبنان"؟ وارتفعت الأصوات مختلفة بين نعم ولا.
واستدار إلى اللوح، يرسم فوقه تعرجات خارطة لبنان من شماله إلى جنوبه، ثم واجه التلاميذ بيديه الممدودتين، يميناً ويساراً، وخاطبهم "انظروا جميعاً إليَّ، وانسوا ما خلفي. تخيلوني مجسَّماً لخارطة الوطن، ووزعوا حدوده عليَّ". تمتمت "زهراء" وقد تطاير الشررُ من عينيها الغاضبتين: "لماذا؟ لترميه في سلة نفايات؟ إن البرميل الذي حرمتني استراحتي لحراسته ظلماً وعدواناً، أكثر نظافة من إهانتك لي". فصاح بها: "كلمة أخرى وتغادرين الصف إلى حيث كنت منذ قليل، في الاستراحة". فصاحت بدورها: "إنه عقاب الصهاينة الحاقدين على أبطالنا في معتقلاتهم". جمع كل غضبه بنظرةٍ حادةٍ رماها بها، ثم تجاهلها وسأل الباقين: "ماذا يحدّ لبنان شمالاً"؟ فصاحت "ريم": "النهر الكبير الجنوبي، ابتعد عن ضفافه يا أستاذ، كي لا يقع على رأسك فتغرق". فواجهها بسخريته، موقفاً سيل الضحك الهادر: "صحة إجابتك يا ريم، لا تبرّر لك قلة أدبك، إحذري من أن تقفي قربها! وحدود لبنان الشرقية، من يعرفها"؟
ـ "الشقيقة سوريا"، أجابت فاطمة، دون تعليق.
ـ "صحيح! أحسنتِ، وما الذي يحدُّه غرباً؟".
ـ "الأبيض المتوسط" صاحت كوثر مسابقةً رفيقاتها في تعليقٍ طريف، "إحذر الضياع يا أستاذ بين غضب النهر وجنون البحر".
ـ "سأرد بعد قليل على كل تعليقاتكم، والآن، ماذا يحده جنوباً؟".
وكي تسبق الجميع بتعليق أكثر طرافة، أجابت "غنوة" بسرعة قياسية: "إسرائيل والخط الأزرق، إيَّاك أن تتجاوزه يا أستاذ، كي لا تطول غيبتك عنا".
ـ "بل سأجتازه يا "غنوة"، كي أدوس إسرائيل بقدميّ هاتين".

لم تلغ الكلمة الأخيرة عند "زهراء" غضبها من الاعتراف المتبادل بإسرائيل بين زميلتها والأستاذ، أحسَّت في هذه اللحظة، بالذات، بأنها مَنْفَيّةٌ تشارك الفلسطينيين شتاتهم، وبأنها في منفاها القسري هذا أسيرة قصاص انفرادي لا تستحقه، فاستبدَّ بها الغضب لكرامتها الجريحة وفلسطين التي رضي الأستاذ تغييبها عن الخارطة لمجرد المزاح الذي يطيب له، كلما أحاطته أسراب الصبايا بثرثراتهن، فصاحت متحدِّيةً قرار نفيها الجائر الذي حاصرها به، قبل بدء الحصة، بقسوة: "إنها فلسطين، التي اختصر فيها خالي الجامعي أحلامه، ومضى على اسمها شهيداً".

"إنها فلسطين، التي ترك لأجلها خالي الآخر دراسته الجامعية، والتحق بالعمل الفدائي لتحريرها، فقلدته الجراحُ أوسمتها، سنوات طويلة، ختمها بلقاء ربِّه راضياً مرضياً". "إنها فلسطين، التي دافع عنها والدي، ودفع من عمره سنوات اعتقالٍ مريرةً، قبل أن أولد...".

- "إنها فلسطين، التي تقع في قلب وطننا، لو طويت خارطتك يا أستاذ، وهذه أنا، ابنةُ أسرةٍ لبنانيةٍ مجاهدة بجناحيها حبراً ودماً وجراحاً... هي ليست إسرائيل ولن تكونها أبداً... وأنا لست نفايةً كما وصفتني سابقاً... وهذه لن أغفرها لك أبداً... وهل تغفرُ حرَّةٌ لمن أهانها؟ هل ستغفر فلسطين للصهاينة جرائمهم؟".

 اتجه نحوها، فأحست بأنها متعبة، فاتكأت على جدار "منفاها"، ولكن عينيه الدامعتين تواجهانها، وصوته الهامس يبدِّد تكاثف صمت الآخرين. أسمع الجميع ما سيحتفظون به طويلاً في ذاكرة لقاءاتهم الآتية: "أنت محقةٌ يا "زهراء"، إنها فعلاً فلسطين... وأنتِ "زهراء" الجميلة، زهرة مقاومةٍ مستمرةٍ، وأنا إذ أهنتك، أهنت نفسي. أرجوكِ، اغفري لي خطإي، وليشفع لي عندك أنني ابن شهيد قديم. هيا أرجوكِ، اكتبي أنتِ حدود الوطن كما تحلمين بها وتريدين أن تكونها". أطلقت "زهراء" سراح دموعها المحتبسة منذ بدء الحصة. وبعد تردد قصير، كانت خلاله تلاحق ظلَّ رأسه المحني أمامها، أخذت الطبشورة من يده، وكتبت: "وطني حدوده الشمسُ حباً بين أبنائه، والقمرُ مقاومةً لِلؤم أعدائه".

 وعلى وقع التصفيق الذي بدأه الأستاذ، وتجاوب معه الجميع، ارتفع صوت أحدهم بمطلع أنشودةٍ من أناشيد الطفولة، وكان ارتفاع إنشادها أثناء اللعب في الفرصةِ، سبباً في عقابه "لزهراء": "فتحنا كتاب الدين، لقينا فلسطين، فلسطين أحبابنا، إسرائيل أعداءنا، بيدقوا ع بْوابنا، مثل الشحادين، دين... دين... دين". وتركهم ينشدون تاركاً لمشاعره حرية الانسياب مع اللحن العفوي واقترب منها مبتسماً مُشيراً باصبعه إلى كلمة "أبنائه" في عبارتها الأولى، سائلاً: "وأنا ألستُ من أبناء هذا الوطن يا "زهراء"؟" "بلى" - أجابته - وقد واجهته للمرة الأولى في تلك الحصة، بابتسامةٍ مشرقةٍ وملامح وجهٍ لا أثر فيه للغضب: "أنت أستاذي وسترشدنا يوماً إلى دروبها، إن لم تستطع قيادتنا إليها، وستبقى معنا، قربها، حيث هي، في القلب... موقعها".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع