د. حسن سلهب
ينشغل المتعلمون والأهل والمعلمون في هذه الفترة، لا سيما المعنيين بالشهادات الرسمية، بالتحضير للامتحانات المقبلة. وغالباً ما يتحول هذا الانشغال من إجراءات لها علاقة بالدرس والمراجعة، إلى حالات من القلق والتوتُّر لا ينجو منها أحد. فالمتعلمون يصابون بنوع من الأرق وقلة الشهية، فضلاً عن الانطواء وبعض الهوس. والأهل يشعرون بشكل من أشكال الخطر على مستقبل أولادهم، فهم قلقون على طريقة استعداد أبنائهم للامتحان، والبعض منهم يخشى عدم حصول أبنائه على درجة امتياز، لأسباب عديدة، لا علاقة لها بالعلم أوالتعلم. أما أكثر المعلمين فقد وجدوا أنفسهم، من دون وعي أحياناً، خارج دورهم الأساسي، وباتوا يفكرون بكل طريقة تؤمن نجاح تلامذتهم، حتى لو كانت على حساب قناعاتهم العلمية أو التربوية، فهم مستعدون لتقديم النصائح أو الإشارات التي تضمن النجاح أو الامتياز في الامتحانات الرسمية فقط، ومن دون أدنى اعتبار لما هو بعدها من تحدِّيات أو استحقاقات.
لقد بات الجميع أمام استحقاق يختصر كل الاستحقاقات، ولا مانع من تجاوز كل العوائق بأي طريقة، أو تقديم كل التضحيات مهما كانت، لتمرير هذا الاستحقاق بالنجاح أو الامتياز. لسنا ضد الانشغال بمستلزمات الامتحانات الرسمية، ولكننا لا نراها أكثر من محطة على طريق طويل مزدحم بالاستحقاقات المتوالية. فلا يُعقل أن نستنفد كل طاقات الصبر والتحمُّل في أول الطريق، ولا مبرر لحرق الأعصاب عند أول استحقاق.
* تُنسج خيوط النجاح منذ بداية العام:
إننا ندعو إلى التعامل مع هذه التجربة الجديدة، أو المتكررة، بكل جدية مع إيمان بالقدرة على تجاوزها بنجاح. لسنا مع تحوُّل حياة المعنيين بهذا الاستحقاق إلى ما يشبه الاستنفار الدائم، كما لسنا مع المعسكرات التي تنظم في الشهر الأخير من العام الدراسي بحجة مساعدة المتعلمين على تنظيم أوقاتهم واستثمارها. فالمفروض أن يستعد المتعلمون لهذا الاستحقاق، ضمن بيئتهم الخاصة، وليس في بيئة مصطنعة، حتى إذا ما تغيرت الأحوال بتنا أمام متعلمين لا يجيدون إدارة وقتهم إلا بشروط خارجية صعبة. إن الاستعداد الجدي يبدأ في أول يوم دراسي من العام، حتى إذا ما اقترب المتعلمون من استحقاق الامتحانات وجدوا أنفسهم في درجة عالية من القدرة والجدارة، لا يحتاجون معها إلا لجهود معقولة في المراجعة والدرس. إن كثيراً من الاستعدادات الاستثنائية في نهاية العام تشبه حبوب زيادة النشاط التي يتناولها الرياضيون عشية مبارياتهم كي يظهروا بأعلى قدراتهم وإمكاناتهم، ولكن بعد فترة من النجاح والامتياز يصابون بأنواع عديدة من الأمراض، ونقص في الطاقة، قد تهدد مستقبلهم الرياضي وربما حياتهم. إن الحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى نوع من النجاح والتمايز تُنسج خيوطه على مدار العام، ليغدو نجاحاً وتمايزاً يضرب جذوره في صميم التجربة العلمية للمتعلم.
* مقترحات عملية:
مما تقدَّم يمكن اقتراح الأفكار التالية:
أولاً: الامتناع عن كل ما من شأنه تصوير الامتحانات كاستحقاق مصيري، لا يمكن التعويض عن خسائره، والاكتفاء بالتوجيه لأهمية هذا الاستحقاق - وبالتالي اعتباره محطة ضرورية على طريق العلم الطويل.
ثانياً: تحاشي القيام بأي إجراء داخل البيت من شأنه التأثير سلباً على وقت التلميذ، أو على تركيزه واجتهاده. وقد يكون من المفيد إعفاؤه من بعض المهام البيتية، تحت عنوان مساعدته على استثمار وقته. ليس المطلوب من الأهل هنا تجميد كل أعمالهم، أو تحويل البيت إلى حالة من الطوارئ، بل كل ما في الأمر عدم التأثير سلباً على أعمال التلميذ في المراجعة والدرس.
ثالثاً: منح التلميذ الحرية في طريقة تنظيمه لوقته وترتيب مواده الدراسية، وعدم إرغامه على نمط دون آخر، إلا في الحالات التي تُهدَّد فيها عملية الاستعداد للامتحان بشكل كلي. ومع أن هناك قواعد عامة تسهم في تحصيل نتائج أفضل، إلا أننا لا نملك فرضها على التلميذ، وأفضل ما يمكن تقديمه في هذا المجال هو عرض هذه القواعد عليه بطريقة الإرشاد والنصح. ومن قبيل المثال، لا يمكن إجباره على الدرس في الصباح الباكر اذا كانت طريقته الخاصة هي أن يدرس في بداية الليل، كما لا يمكن تحديد حجم ساعات الدرس، أو ساعات الراحة وتوقيتها، فهذا أمر يقوم التلميذ بترتيبه عبر تجارب خاصة يمر بها ويكتشف معها ما يلائم نشاطه الذهني والجسدي.
رابعاً: من المفيد أن يظهر التلميذ كمعني أول بعملية التحضير، وليس أهله أو معلمه. فدور كل واحد من الأطراف الثلاثة يجب أن لا يتجاوز حدوده. فالمبالغة بتأمين المساعدة من قبل المعلم، سواء في المدرسة أو في البيت، تلحق الضرر بالتلميذ، وتحرمه من تكوين شخصيته العلمية المستقلة. وكذلك الحال مع الأهل عندما يسعون لتوفير أدق حاجات أبنائهم الضرورية، أو غير الضرورية، وبأشكال وكميات تبعث على الاتكالية عند التلميذ. إننا كأهل ومعلمين بحاجة إلى قدر من نسيان بعض التفاصيل المتعلقة باستعداد أبنائنا للامتحان، أو على الأقل الظهور أمامهم بهذه الطريقة. فلينشغل المعلمون والأهل بأمورهم الخاصة قليلاً، ولا يُشعروا التلامذة بأنهم متفرغون لهم في فترة الامتحانات، وليتعمَّدوا بعض الإهمال لحاجات تلامذتهم وأبنائهم كي يبادر هؤلاء إلى تأمينها بأنفسهم - وبالتالي تعزيز الشعور لديهم بالمسؤولية الخاصة عن هذه الحاجات وغيرها. إن قليلاً من الحرمان المدروس يسهم في تصليب شخصيات الأبناء ويقوِّي مناعتهم، كما يسهم القليل من الجفاف في انغراس الأشجار، وبالتالي يقوِّي قدرتها على مواجهة المتغيِّرات المناخية.
خامساً: عدم التردُّد في تأمين المساعدة العلمية للأبناء إذا ما لاح في الأفق حاجاتهم الفعلية لها، حتى لو تطلب ذلك إنفاقا مالياً استثنائياً. فبعض المتعلمين، ولأسباب غير عادية، قد تظهر علامات ضعفهم بشكل كبير في الفترة الأخيرة من العام، لا سيما في مجال المواد العلمية، وهذا أمر يقتضي تأمين مساعد بشكل فوري وعاجل، حتى وان اضطر الأهل للاقتراض المالي، فالموقف يستحق ذلك، وماء الوجه لن يراق في هذا المقام.
سادساً: تحاشي ما يمكن وصفه بالانحياز لمواد على حساب مواد أخرى، فالتوازن في دراسة المواد، على طريقة لكل مادة حظَّها من الوقت والجهد، هو الإجراء، وهو الموقف الملائم. من هنا، ضرورة الابتعاد عن فكرة النجاح ببعض المواد لأنه نجاح ضعيف وهزيل، لا يلبث أن ينهار بعد فوات الأوان، وقد يؤدي في بعض الحالات بالتلامذة إلى رسوب قاسٍ يهدِّد مسيرتهم العلمية لاحقاً، وهذا ما نلاحظه عند الكثيرين من التلامذة الذين نجحوا في شهادة التعليم الأساسي، ولكنهم لم يتمكنوا من متابعة دراستهم الثانوية إلا بمعاناة شديدة، أو بالمزيد من الضعف والإهمال.