مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قصة: أغلى من دمه.. ودمي

ولاء إبراهيم حمود

 



لا تسألوني عن صاحبها فقد طلبها مني من موقعه.. أخاً حقيقياً في دين الله، وهي تعاد إليه.. دون إهداء...

ما زالت تذكرُ، أنها في صباها، كانت تتعاطف مع رفيقاتها اللواتي يُغطين رؤوسهن "بالإيشارب"؛ والذي كان فيما مضى معقوداً تحت الذقن بطرفيه. كانت أولئك الفتياتُ، قِلَّةً، اثنتين أو ثلاثاً في صفٍ فيه عشرون فتاةً، كانت أمهاتهن يُبْدِعْنَ في تزيين رؤوسهن المكشوفة بالشرائط الملوَّنة، فوق جدائلهن. وكانت مع هؤلاء، تتناقلُ، باستنكارٍ، أخبار تلك التي كانت تخبئُ "الإيشارب" في محفظتها، ما إن تبتعد عن مرمى أنظار أهلها، لتضعه على رأسها أثناء طريق العودة. وكانت تراها معذورةً، مظلومةً مضطهدةً من أهلٍ قساةٍ، رجعيين، متخلفين، يدفعون ابنتهم دفعاً إلى الأساليب الملتوية، من كذِبٍ وخداع.


حتى معلماتها، كن يتعاملن مع تلك الفتاة وسواها، بشفقةٍ وازدراءٍ، وكن يستغربْن أن تمتلك إحداهن ذكاءً أو ثقافةً أو حتى مشاعر إنسانية تتفاعل مع قيم الجمال والفن والرِّقة... إلى أن بدأت صور الشهداء تزين جدران المنازل ومنعطفات الشوارع وتحتل أسماؤهم أعماق الوجدان. تذكر أنها قرأت يوماً تحت صورة أحدهم، تصويراً لكلمةٍ، كتبها قبل استشهاده، بدمه: "حجابُكِ، أختي؛ أغلى من دمي". وتذكر بخجلٍ؛ أنها قد تأملت وجه ذلك الشهيد، وشكَّكت في صِحَّةٍ نسبةِ العبارة إليه، ولم تقفْ عند ذلك الحد؛ فقد سخرت طويلاً من هذه العبارة المكتوبة بالقاني، اختصاراً، بليغاً؛ وتساءلت بين رفيقاتها: "ترى كيف لقماشٍ مهما غلا ثمنه، أن يفوق قيمةً دمَ شابٍ تراه أمه، "حبيبَ الله"، وقد كان والحق يقال جميلاً وسيماً، وكانت ابتسامته تنشر على ملامح وجهه نوراً وضيئاً، لم تكن ومثيلاتها يُحْسِنَّ رؤيته.

وفيما بعد، تحمَّست كثيراً للشعب الإيراني الباسل يواجه، باللحم العاري، دبَّابات السَّافاك، والقرارات الجائرة لمحمد رضا بهلوي، الذي قرأت قصص زيجاته "الأسطورية" من فوزية، وثريا اصفندياري، وفرح ديبا، بتسلسلٍ دقيق في مجلة "الموعد" الفنيَّة التي كانت رائجةً يومذاك. وللمرة الأولى في عمرها؛ أُعجبت بذي عِمَّةِ سوداء، ثمانيني، فقد كان ذوو العمائم، الملتحون، مثار خوفها وحذرها، وكانت بناتهم مثار أسئلةٍ لا جواب لها، فقد كنَّ يتحركن في خيالها، غامضات، من وراء حجابٍ كثيفٍ من الأوهام المتوارثةِ جهلاً عن جهل. وحده، ذلك العالِمُ الجليل، الذي كان يحرِّك الملايين الثائرة، بحركةٍ بسيطةٍ من يده وهو خارج بلاده، يستحوذ على مشاعرها الثورية. وهي اليوم تذكر جيداً، خلجات ذلك الشعور الغامض، الذي كان يدفعها لتتبع أخبار انتقاله من العراق، إلى الضاحية الباريسية (نوفل لوشاتو).

لقد تابعت بشغفٍ استغربته منها رفيقاتها تفاصيل رحلة عودته من فرنسا إلى إيران، أداءه الصلاة في موعدها في الطائرة، إغفاءته القصيرة فيها إطمئناناً في وقت كان العالم كله يترقب فيه اسقاطها لمنعه من العودة، خطاه المتزنة وهو يغادرها، يده المرتفعة تحيي الجماهير التي جاءت لاستقباله، بعد رحيل الشاهنشاه، باحثاً فوق أرصفة العواصم الكبرى عن مأوى، فضاقت به ذرعاً بناما والبرازيل، وأميركا كلها، ولم يجد له معبراً مفتوحاً سوى مصر "التي نعذرها اليوم فقد نسيت كيف تفتح المعابر أمام أهل غزة"...

وتذكر أنها رأت ذلك العائد إلى بلده، متوكئاً على سنوات عمره الثمانين، جميلاً أجمل من كلِّ جميل، قوياً، أقوى من كل قوي... ويفرحها الآن كثيراً أن تستعيد صوتها وهي تدافع عنه أمام سطوة أستاذها اليساري، الذي أعلن في الصف "أن روسيا تدعم هذا "الخمينيَّ" فتصدَّت له بنبرةٍ مرتفعةٍ: "إنه الشعب الإيراني العظيم، الذي حكم على طاغيته بالموتِ منفياً، أَوَ يُعْقل أن تدعم روسيا الشيوعية يوماً رجلاً متديِّناً، معمَّماً، يرفض الإلحاد ويحاربه؟ وسمعته يسألها ساخراً: "أستصبحين خمينيةً عمَّا قريب"؟ راقتها هذه الصفة كثيراً، وجاء صمتُها شِبْهَ إقرارٍ بها. ما زالت، حتى اللحظة، تستعيد تفاصيل ذلك الحلم، الذي رأت نفسها فيه: تقف بحضرته، تسأله أسئلة كثيرة بعد أن ناولها بيده الشريفة (إيشارباً) وضعته على رأسها.

وفي اليوم التالي تناقلت كل وسائل الإعلام موقفه من إعلامية تسلّلت إلى مؤتمره الصحفي سافرةً وقد حرصت على الاقتراب منه، فلم يجب على أي سؤالٍ منها حتى تغطي رأسها. وما زال صوت أمها يرن في أذنيها، وهي تشيد بهذا "الخميني" العظيم، أمام جمع النسوة اللواتي تحلقن حولها، لأنه أمر بإغلاق كلِّ الخمَّارات وأماكن الفساد وفرض الحجاب والحشمة. وتتذكر جيداً، كيف قاطعت أمها بحبور: "إنه فعلاً يفرض الحجاب يا أمي، فقد رأيته الليلة في منامي، وقد قدَّمه لي، وكان لطيفاً جداً، إذ ناداني: يا ابنتي".

 وتذكر أنها استعارت من صديقتها أول كتابٍ ديني قرأته بعنوان "سيرة المصطفى" وأنها استغرقت في القراءة حتى البكاء عند وصولها إلى فصل وفاة الرسول الأعظم، وأنها فوجئت بأخيها يسألها: "ما بك ولمَ تبكين؟" فأجابته بحرقةٍ "لقد توفي الرسول صلى الله عليه وآله يا أحمد" فأجابها بابتسامةٍ متسائلة "الآن عرفتِ؟"، وتذكر تماماً أن أخاها قد حدَّثها كثيراً عن عظمة الخميني قدس سره الآتي من نسل الرسول صلى الله عليه وآله، وعن تعاليمه السمحاء وأنه ختم حديثه بقوله: "لو فعلنا ما يريده الخميني قدس سره وطبَّقنا في حياتنا تعاليم محمد صلى الله عليه وآله لما بقي على وجه الأرض فقيرٌ أو مسكينٌ أو صاحب حاجة". وبعد تذكرها شرح آية الحجاب من معلمة الدين وقفت طويلاً أمام المرآة، تتأمل وجهها في أحد مناديل أمها، وعندما واجهت الآخرين بحجابها، أفرحها كثيراً سؤال إحدى العجائز لها: "هل أصبحتٍ خمينية؟" فأجابتها بثقةٍ: "أجل، على دين محمد صلى الله عليه وآله وثورة الخميني قدس سره". تذكر كل هذا وأكثر... ولا تنسى أبداً إحساسها الذي عاشته بعد أشهرٍ وهي ترفض يد أختها الممدودة إليها، لتنزع عن رأسها حجابها وهما تغادران معبر البربير المتحف أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 82... قبل الوصول إلى الحاجز الإسرائيلي الذي شهر رجاله السلاح عليهما... لقد خنقها شعورٌ غريبٌ بالندم، على أيام سخرت فيها كثيراً من تلك العبارة التي كانت قد قرأتها سابقاً تحت صورة الشهيد.

 وعندما قادتها ذاكرتها إليها بعد أن عاشت حينها معناها، اتخذت مشاعرها وجهةً أخرى، رأت فيها حجابها، أغلى من دمه... ودمها... فوجدت يديها تُخرجان من محفظةٍ كانت قد جمعت على عجل محتوياتها، قميص أخيها، الذي بقي في الضاحية شهيداً، وغطت به رأسها وعقدت كُمَّيْه تحت ذقنها، كما كانت تفعل فتيات زمن الحجاب الأول، ووقفت تنتظر مصيرها أمام رجال الحاجز وأسلحتهم المصوَّبة نحو سيارة العائلة، وهم يجهلون أنها قد اتخذت من قميصه، بعد استشهاده، سلاحاً تشهره في وجوههم، وحجاباً لا يقيها ذلَّ السفور، وندم المعصية، فحسب، بل ويوازي في وجدانها الديني، المولود حديثاً مع إشراقة فجر الخميني المحمَّدي العظيم، دمَ الشهيد.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع