الشيخ إسماعيل حريري
قال تعالى شأنه في محكم كتابه وواضح خطابه ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ (الروم: 41). وقال تعالى أيضاً: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(القصص: 83). ورد في تفسير الفساد في الآية الأولى أنه هلاك الحيوان في البرّ ودوابّ البحر، بسبب كثرة المعاصي والذنوب(1). والتقدير: ظهرت عقوبة الفساد في البرّ والبحر. والفساد في اللغة نقيض الصلاح، وقوله تعالى: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ (المائدة: 33) أي يسعون في الأرض للفساد. والمفسدة خلاف المصلحة(2)...
هذا، وقد ورد الكثير من الآيات والروايات في ذمّ الفساد والمفسدين على الصعيدين الأخلاقي والاجتماعي، مثل الآيتين المتقدمتين، ومثل ما كتبه الإمام الرضا عليه السلام لمحمد بن سنان من جواب سائله، وهي رواية طويلة ذكرها الشيخ الصدوق رضي الله عنه في ثلاثة من كتبه (علل الشرائع، من لا يحضره الفقيه وكمال الدين) وفيها: "حرم الله قتل النفس لعلّة فساد الخلق في تحليله لو أحلّ، وفنائهم وفساد التدبير. وحرّم الله تعالى الزنا، لما فيه من الفساد من قتل الأنفس وذهاب الأنساب وترك التربية للأطفال وفساد المواريث، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد. وحرّم الله عزَّ وجلَّ قذف المحصنات، لما فيه من فساد الأنساب ونفي الولد وإبطال المواريث وترك التربية وذهاب المعارف، وما فيه من الكبائر والعلل التي تؤدّي إلى فساد الخلق..."(3).
* مفردات الفساد الأخلاقي والاجتماعي:
هناك مفاسد كثيرة وحالات فساد منتشرة في كلِّ وقت وفي كلِّ مكان منذ نبي الله آدم عليه السلام وإلى يومنا هذا، بل إلى يوم القيامة. وفي كلّ زمان، هناك ابتداع لأدوات تستخدم في الفساد ترويجاً ونشراً وإن كان يمكن لتلك الأدوات أن يُستفاد منها في الحلال والخير والصلاح. وسنقتصر على ذكر أبرز تلك المفاسد والرذائل سواءً من النحو الأوَّل أم الثاني:
الأوَّل: الزنا والعياذ بالله فإنّه الآفة الكبرى والفاحشة العظمى التي لا يخلو منها زمان، فهي الرذيلة الأكثر انتشاراً في المجتمعات لا سيّما الغربيّة منها، وقد أصابتنا نحن المسلمين عدواها، وخصوصاً في زماننا هذا، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ (الإسراء: 32). أمّا أنّه فاحشة، فلما فيه من القبح العقلائي والشرعي، فإنّنا لا نكاد نرى مجتمعاً عاقلاً إلاَّ ويمقت هذا الفعل ويعتبره رذيلة أخلاقية وعملاً غير إنساني، لما يجرّ على المجتمعات من مفاسد تقدّم ذكر بعضها في رواية الإمام الرضا عليه السلام، وهذا لا شكّ في أنّه يؤدّي إلى خراب المجتمع وسقوطه ووهنه، فلا تقوم له قائمة ولا يكون قادراً على الوقوف أمام التحديات التي تواجهه في حياته في مختلف المجالات، ويكفينا ما في هذه الرّذيلة من آثار في الدنيا والآخرة، ففي وصيّة النبي صلى الله عليه وآله لعليّ عليه السلام "يا عليّ، في الزنا ستّ خصال، ثلاث منها في الدنيا، وثلاث في الآخرة، فأمّا التي في الدنيا فيذهب بالبهاء، ويعجّل الفناء، ويقطع الرزق. وأمّا التي في الآخرة: فسوء الحساب وسخط الرحمن، والخلود في النَّار"(4).
الثاني: شرب الخمر، وهو مضافاً إلى كونه من الذنوب الكبيرة والآثام الخطيرة مفتاح كلِّ شرّ، والمدخل إلى كلّ معصية، وهو أشدُّ من الزنا مع ما في الزنا من الإثم الكبير، فقد قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: "إنَّك تزعم أنّ شرب الخمر أشدّ من الزنا والسرقة؟ فقال عليه السلام: نعم، إنّ صاحب الزنا لعلّه(5) لا يعدوه إلى غيره، وإنّ شارب الخمر إذا شرب الخمر زنى وسرق وقتل النفس التي حرّم الله عزَّ وجلَّ، وترك الصلاة"(6). ولذلك، ورد الحثّ على عدم تزويج شارب الخمر بشدّة، فعن مولانا الصادق عليه السلام: "من زوَّج كريمته من شارب خمر، فقد قطع رحمها"(7). هذا مضافاً إلى ما للكحول من آثار سلبيّة على عقل الإنسان، ففي كتاب الهدايا الاجتماعية نقلاً عن مجلّة (تندرست): "حسب تحقيقات الأطباء، يوجد في فرنسا مائتا ألف مجنون بسبب المشروبات الكحوليّة..."(8). ولو أردنا أن نجول على التأثيرات السلبيّة للكحول في عالم الطبّ، لوجدنا كمّاً كبيراً منها في كلمات أهل الطبّ وكتاباتهم. فمثلاً حسب الإحصاءات الموجودة، يعتبر 90% من أمراض الكلية ناشئاً عن مادّة الكحول، ذلك أنّ الكحول يحرّك المجاري البوليَّة حال التبول، ويولد أعراضاً مؤذية للغاية من قبيل مرض السلس وغيره(9).
الثالث: الغناء سواءٌ كان بالممارسة الفعليّة له أم بالاستماع، فهو من المفاسد الكبيرة التي اعتادت عليها المجتمعات قديماً وحديثاً، وقد تطوّر جداً في المادّة والأسلوب واللحن وابتدعت له وسائل شتّى، بحيث صار الخبز اليومي لكثير من الناس بما فيهم المسلمون. وللأسف الشديد صار هذا المسلم يستقبل نهاره بالغناء ويختمه به، بعد أن كان يفتحه بالاستماع إلى آيات الله تعالى تبرّكاً وتفاؤلاً واستبشاراً، ليوفّقه الله في يومه فيما يقوم به من عمل أو درس أو غير ذلك. بل صار عدم الاستماع إلى الغناء أمراً مستغرباً يثير الاستهجان ويوصف صاحبه بالتعقيد والتخلّف والجمود، في حين أن الله تعالى اعتبره من قول الزور في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ (الحج: 30) ومن اللغو، في قوله: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ (الفرقان: 72). ومن لهو الحديث: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (لقمان: 6). كما ورد في الروايات أنّه يورث النفاق، ويعقب الفقر كما عن مولانا الصادق عليه السلام(10). وورد عنه عليه السلام أيضاً: "بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، ولا تُجاب فيه الدعوة، ولا يدخله الملك"(11). وفي الواقع نرى مستمع الغناء إنساناً ذا شخصية متزلزلة سطحية تتعلق بالأوهام، وتعيش في خيال الأغاني وأحلام السراب التي تنخر رأسه، من كثرة استماعه لتلك الكلمات الغنائيّة التي تحرك له المشاعر، وتستفز لديه الغرائز وتحفّز عنده إحساسات العشق والغرام، ممّا يجرّه إلى ارتكاب الفواحش، فتزّل قدمه في مرديات الشياطين.
الرابع: السُّفور، وهو آفة اجتماعية متفشيّة في مجتمعاتنا الإسلامية، لا سيما اللبنانية منها. وعوامله كثيرة أهمها:
1- إهمال الأهل وعدم توجيه بناتهم باتجاه الحجاب الشرعي.
2- الاعتقاد الخاطئ والمسيء في أن الحجاب يكبّل المرأة ويقيّدها عن ممارسة دورها في المجتمع علماً وعملاً.
3- الهجوم الخبيث الذي يشنّه المعادون لهذا الواجب الإلهي، بل للدين الإسلامي بكل تشريعاته، ومنها وجوب الحجاب.
4- توفر موادّ الفساد التي لها دور في إبعاد المسلم عن دينه والتزامه ومن ذلك حجاب المرأة، إلى ما هنالك من عوامل أخرى. علماً أنّ فرض الحجاب ليس أمراً ذوقياً ولا خاضعاً وجوبه للقناعة والمزاج الشخصي، كما هي الحال كذلك في كل التشريعات الإسلاميّة، وإنما هو فرض إلهي، من أهم حِكَمِهِ أنّه يقلّل بنسبة كبيرة الوقوع في فاحشة الزنا أو ما دونها، الناشئة من إبراز المرأة لمحاسنها ومفاتنها أمام الرجل، الذي تتحرّك عنده الشهوات فتدفعه إلى ارتكاب المحرّمات.
* وسائل الترويج لهذه المفاسد:
لا شكّ أنّ المفاسد الاجتماعية والأخلاقية أكثر من ذلك بكثير، فهناك السرقة والظلم وتناول المخدرات وأكل الحقوق، والربا، وأكل أموال الأيتام، والشهادة الكاذبة أي شهادة الزور، والغش والكذب والغيبة والنميمة والبهتان والقمار، وغيرها الكثير، والمجتمعات تعاني منها جميعاً، ولا يمكن التعرّض لكلّ ذلك. إلاَّ أنّه ممَّا يؤدي إلى سعة انتشار هذه المفاسد في مجتمعاتنا، الوسائل الحديثة التي تعتبر من أهم وسائل الاتصال والتواصل مع النَّاس في أي مكان كانوا، في عملهم أم في بيوتهم أم في مدارسهم، بل حتى في سياراتهم مثل: التلفاز الراديو الانترنت، والصحف والمجلاّت وأشرطة الكاسيت والـCD.
والخطورة أنّ هذه الوسائل مفتوحة على كلّ ما يؤثّر في المتابع لها، خصوصاً بعد دخول الفضائيات المرئيّة إلى بيوتنا، بل التواصل المباشر عبر المواقع الإلكترونية التي لا يخلو أكثرها من مفاسد أخلاقية واجتماعية. وهذا يحتم على الجميع من أهل وتجمعات مدنيّة ودينية تبغي الفضيلة والصلاح، أن تعالج هذه المشكلة بكل وسيلة ممكنة، للحدّ من التأثيرات السلبية لهذه الوسائل التي تستخدم بشكل كبير في إفساد الناس وترويج الفساد والباطل، وتصوير الباطل حقاً والفساد صلاحاً خصوصاً من ولاة الأمر، حتى لا نكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿َإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ (البقرة: 205)، وقوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ (محمد: 22).
(1) البرهان في تفسير القرآن، ج7، ص450، ح8364/3.
(2) لسان العرب، ج10، ص261، مادة فسد.
(3) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص421، ح3/1748.
(4) الخصال/ ص320.
(5) في بعض النسخ: لعمله.
(6) الكافي، ج6، ص403، ح9.
(7) الكافي، ج5، ص347،ح1.
(8) الذنوب الكبيرة، ج1، ص235، الحاشية.
(9) الذنوب الكبيرة، ج1، ص237، وقد ذكر قدس سره كثيراً من العوارض الجسديَّة للخمر طبيّاً، فراجع.
(10) مستدرك الوسائل، ج13، ص212، ح15141/1.
(11) الكافي، ج6، ص433، ح15.