الشيخ محمد خاتون
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 183 186). إن الدخول للحديث عن شهر رمضان وما فيه من الأمر بالتزود غير الزاد للنفس البشرية يفرض علينا أن نبدأ به من كتاب الله عزّ وجلّ، الذي أحاط بكل شيء وكان تبياناً لكل شيء، وبيّن في هذا الكتاب العزيز العلاقات بين الأشياء وترابط الشرائع الإلهية مع الغايات التي يريد الله لهذه النفس أن تصل إليها. وقد حدد القرآن الكريم مجموعة من الحقائق:
* الغاية من الصوم:
1 إن غاية الصوم هي الوصول إلى التقوى، ويشمل هذا الهدف التقوى على مستوى الفرد كما يشمل التقوى على مستوى الأمة. ويختلف المجالان في الميدان العملي، فإن الأول له علاقة بمفاهيم تزكية النفس وتطهيرها لتأتي آمنة يوم الفزع الأكبر، وعند تجاوز أهوال يوم القيامة، على قاعدة قول الله عزّ وجلّ ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (البقرة: 197) بينما للثاني علاقة بالجماعة التي يطلب منها التماسك ورص الصفوف لمواجهة الأخطار والتمهيد لتحقيق الانتصار، من خلال عبور هذه الشعيرة الإلهية العظيمة. ولكن، حيث إن المجتمع هو عبارة عن تكاثر وتعدد في الأفراد، فإننا نأخذ بعين الاعتبار ما يصلح الفرد ويعنيه ونترك الباقي لأبحاث أخرى تأخذ الطابع الاجتماعي والسياسي بعين الاعتبار.
2 إن عملية تزكية النفس وتطهيرها لا بد لها من مصدر، وهي في ذلك تشبه التطهير المادي الذي لا بد له من مصادر أيضاً حددتها الكتب الفقهية والتشريعية في البحث عن الحكم الشرعي.
* منابع تزكية النفس:
وقد حدد القرآن الكريم مجموعة من مصادر التطهير، فمرة يتحدث القرآن عن الشخص الذي يراد للنفس أن تتطهر بواسطته، ومرة يتحدث عن المكان، وثالثة يتحدث عن الزمان. قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: 21). فهناك التزكية والطهارة التي تحصل من خلال اتباع النفس المقدسة لشخص الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، وتبعاً لذلك. وتتضح هذه الغاية في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب: 33) وقال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا﴾ (آل عمران: 96). فههنا الكلام عن قدسية المكان الذي من خلاله يتزكى الإنسان، ولعل ذكر هذه الآيات الشريفة ثم تعقيبها بوجوب الحج إلى بيت الله الحرام يشير إلى هذا الكلام إشارة جليّة واضحة. وقال تعالى في قدسية الزمان "... شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن..." إلى آخر الآيات التي بدأنا بها هذا البحث. ومع الترابط الشديد بين هذه المصادر لتزكية النفس، إلا أن هناك فارقاً لا بد من أخذه بعين الاعتبار، لنرى عظيم نعم الله علينا من خلال شهوره المباركة، وبالأخص خير الشهور وأفضلها وهو شهر رمضان المبارك. وذلك أن المكان الذي هو من مصادر التطهير لا بد من قصده من قبل القاصد، فما لم يصل إليه لا تحصل عملية التزكية. وكذلك بالنسبة إلى الشخص، فإن الخير في قصده للتزود منه ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ (الفرقان: 62) فيسعى الإنسان إلى المكان وإلى الشخص، بينما يأتي إلينا شهر الله بالخير والبركة والرحمة، وكأن هناك عملية قسرية يجريها المولى عز وجل لتطهير العباد. ولكن مع هذه الفوارق بين منابع التزكية البشرية، إلا أنه يجمعها جامع وهو ضرورة التهيؤ، فكما يتهيأ الإنسان للقاء شخص ما له مقامه عند الله من اغتسال وتطيب ولبس الثوب الحسن الجميل الطاهر... وكذلك بالنسبة إلى المكان، فكذلك يتهيأ لاستقبال زمان الخير والبركة والرحمة الإلهية... ولذلك، فإن التقوى التي أمرنا الله بالتزود بها لن تحصل إلا من خلال طلبها طلباً حثيثاً ولن تأتي جزافاً.
* الشهر المبارك وعاء القرآن:
إن هناك ترابطاً وثيقاً بين شهر رمضان وبين كتاب الله عزَّ وجلَّ، فالشهر المبارك هو الوعاء الزمني للقرآن الكريم كما نص القرآن نفسه، وهذا يشير إلى خصوصية ما قد لا يستطيع المرء أن يتعرف عليها بالتفصيل، ولكنّ الذي أوتي نصيباً من العلم يدرك بحسب علمه مقدار هذه الخصوصية. على أن الروايات الشريفة تشير إلى هذا المعنى، وبالتالي، فإننا نؤمن تعبُّداً بهذه الحقيقة... وهذا ما نراه جلياً واضحاً في خطبة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله بعد أن مهد الكلام بالحديث عن عظمة الشهر المبارك في لياليه وأيامه وساعاته، قال صلى الله عليه وآله: "فسلوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم"(1) فقد قرن رسول الله صلى الله عليه وآله بين الصيام وتلاوة القرآن، ولا يمكن لكلام رسول الله الذي هو أبلغ الكلام بعد كتاب الله عزّ وجلّ أن يقرن بين أمرين من دون أن تكون هناك مناسبة للاقتران الواقعي بين الأمرين.
ومن هنا، يجب علينا تحديد الأطر التي من خلالها يحصل التعلق بالله تعالى في هذا الشهر، الذي هو شهره سبحانه، كما عبر أيضاً سيد الخلق صلى الله عليه وآله في أول خطبته الشريفة... "أنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة". إن الرحمة الإلهية والبركة الربانية موجودة في كل زمان ومكان... ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك: 15).
* الداء والدواء:
إلا أن هذا الشهر المعظم له منزلته الخاصة عند الله عزّ وجلّ وفضله الواضح على غيره من الشهور، وقد حدد رسول الله صلى الله عليه وآله مجموعة من الوسائل للوصول إلى التمسك بحبل الله عز وجل، حيث قال صلى الله عليه وآله "أيها الناس، إن نفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وإن ظهوركم ثقيلة من ذنوبكم فخففوا عنها بطول سجودكم". فقد وجه صلى الله عليه وآله الإشارة إلى داءين ودوائين، فالداء الأول هو اتباع هوى النفس إلى الدرجة التي تصبح النفس مرهونة بذلك الهوى ومقيدة به... ودواؤه الاستغفار وطلب التعلق به عزّ وجلّ، وهو حقيقة قرآنية ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ (هود: 3). ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ (نوح: 10 12). والداء الثاني هو سيئات الأعمال وكثرة الذنوب وما ينجم عن ذلك من الآثار السلبية التي لا تحصى... ودواء هذا الداء هو تخفيف الأعباء، وذلك من خلال كثرة السجود التي ليست هي مجرد فعل جسدي، وإنما هي تعبير عن أن مجرد الخضوع والخشوع أمام الله عز وجل والاعتراف بألوهيته من خلال السجود قادرة على تخفيف الأعباء عن هذه النفس التي أثقلت الخطايا ظهورها... جعلنا الله من المستغفرين الساجدين، ونفعنا الله بذلك، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
(1) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص154.