اعلم، أنّ الصلاة هي مقام العروج إلى مقام القرب، والحضور في محضر الأنس. ويلزم للسالك مراعاة آداب الحضور في محضر القدس لملك الملوك. وإنّ أدنى المراتب لظهور النفس في ذلك المحضر، هو البدن الصوريّ، بينما أعلى مراتب الحضور يتمثّل في مقام القلوب.
فالسالك إلى الحقّ، لا بدّ أن يستحضر جميع قواه الباطنة والظاهرة إلى محضر الحق جلّ وعلا حال الصلاة، ويقدّم إلى محضره المقدس جميع الأمانات التي وهبها الله سبحانه له، على أن تكون تلك الأمانات في تمام الطهارة والصفاء من دون تلوّث، فيردّها إليه في الدنيا حال الصلاة، كما أعطاه سبحانه إيّاها نقيّة طاهرة. ولذلك أدبٌ للحضور في لباس الصلاة بين يدي العزيز الجبّار.
•اللباس ساتر بدنك
في أدب الحضور بين يدي الله، خطرات كثيرة لا يجوز للسالك أن يغفل عنها لحظة واحدة، ولا بدّ له من أن يهتمّ بطهارة اللباس الذي هو ساتر للقشر؛ أي ساتر للبدن الظاهر، والساتر وسيلة لطهارة الأبعاد الباطنيّة للإنسان على مراتبها، حيث تبدأ بذلك الساتر القشريّ، وتصل لساتر النفس والقلب والروح أيضاً، فلا انفصال.
•تطهير لباس النفس من المعاصي
فليعلم أنّه كما لا تتحقّق صورة الصلاة بدون طهارة اللباس، فإنّه لا تتحقّق دون طهارة البدن أيضاً، وأنّ القذارات التي هي رجس للشيطان، مانعٌ من ورود محضر الرحمن أيضاً. وكما أنّ المصلّي يُبعد لباسه الملوّث وبدنه (كما المُحدث بالأكبر) عن محضر عبادته، كذلك فإنّ قذارات المعاصي وعصيان الحقّ هي من تصرّفات الشيطان وقذارات النفس العاصية، ومن موانع ورود المحضر. فالمتلبّس بالمعاصي قد نجّس ساتر النفس ولباسها، ولا يتمكّن مع هذه القذارة أن يرد إلى محضر الحقّ. وتطهير هذا اللباس من شرائط تحقق الصلاة المعنويّة وصحتها.
وما دام الإنسان غافلاً في حجاب الدنيا، لن يطّلع على حقيقته الغيبيّة، ولكن في اليوم الذي يرتفع فيه هذا الحجاب سيدرك بعين البصيرة أنّ صلاته كانت فاقدة للطهارة الحقيقيّة إلى نهاية الأمر، وكان مبتلى بآلاف الموانع التي أبعدته عن محضر الحقّ، ومع شديد الندم فلا طريق للجبران، ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ (مريم: 39).
•التطهير من الأخلاق الذميمة
إذا حصلت الطهارة للباس الباطنيّ، فيلزم طهارة البدن الباطنيّ أيضاً من رجز الشيطان؛ وهو عبارة عن التطهير من أرجاس الأخلاق الذميمة التي يلوّث كلّ منها الباطن. وأساسها هو العُجب، وحبّ النفس، والتكبّر، والتظاهر، والتعصّب، وكلّ منها مبدأ كثير من الذمائم الأخلاقيّة. وتطهيرها يكون بتطهير لباس التقوى بماء التوبة النصوح والرياضة الشرعيّة (العبادات).
•القلب: الساتر الحقيقيّ للإنسان
إذا فرغ السالك من هذه الطهارة، فيلزمه أن يشتغل بتطهير القلب الذي هو الساتر الحقيقيّ، وتصرّف الشيطان فيه أكثر وقذاراته سارية إلى سائر الألبسة والسواتر. ولتطهيره مراتب، يشار إلى بعضها:
1- تطهيره من حبّ الدنيا: الذي هو رأس كلّ الخطيئات، ومنشأ جميع المفاسد، ولا تتحقّق المحبّة الإلهيّة التي هي أمّ الطهارات مع هذه القذارة. ولا تحصل هذه المرتبة من التطهير إلّا بالعلم النافع والتفكّر في المبدأ والمعاد، وانشغال القلب بالاعتبار من أفول الدنيا وزوالها، وكرامة العوالم الأخرويّة وثباتها، "رحم الله امرءاً علم من أين وفي أين وإلى أين؟".
2- تطهيره من الاعتماد على الخلق: الذي هو شرك خفيّ، بل هو عند أهل المعرفة شركٌ جليّ. ويحصل هذا التطهير بالتوحيد الأفعاليّ للحقّ جلّ وعلا "أن لا يرى مؤثّراً في الوجود إلّا الله"، الذي هو منبع الطهارات القلبيّة. وليس المطلوب هو العلم النظريّ في هذه المسائل، بل ربّما تكون كثرة العلوم سبباً لظلمة القلب "العلم هو الحجاب الأكبر"، بل يلزم أن ينبّه القلب بالعبادات والرياضات القلبيّة والتوجّه الفطريّ إلى مالك القلوب، مطابقاً ما أفاده البرهان؛ ليُحصّل حقيقة التوحيد.
3- تلقينه معرفة الله: أن يلقّن القلب حقيقة قوله تعالى: ﴿لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ (البقرة: 255)، و﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (يس: 83)، و﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ (الزخرف: 84). ولكن ما لم يصل هذا المطلب إلى القلب، لا تتحقّق له صورة باطنيّة لمعرفة الحقّ في قلبه، ولا يصل من حدّ العلم إلى حدّ الايمان، ولا يكن له من نور الإيمان سهم ولا نصيب.
وهذا مقام جليل، فلا ندقّ طبل "لا مؤثّر في الوجود إلّا الله"، ومع ذلك نمدّ عين الطمع ويد الطلب إلى كلّ مستأهل وغير مستأهل دونه تعالى.
(*) مقتبس من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، فصل في طهارة اللباس.