صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

قلوب صغيرة وعشق كبير

(قصة الطفولة الشهيدة في كربلاء في مقابلة مع فضيلة الشيخ إبراهيم بلوط)

حوار: سوزان شعيتو فاعور


تميط كربلاءُ اللثام عن ثلّة تفتحت براعم أعمارها قبل الأوان، هي بالعمر تُقاس بعدة أيام أو أشهر أو بضع سنوات، لكنها بلحاظ الفعل أتت بما عجز عنه في حينه الرجال. هم أطفال هجروا فيها طفولتهم باكراً، حيث ضجّ حب الحسين في عروقهم فقدّموا أجسامهم الطرية قرباناً على مذبح فدائه، وفي كل عام يقصّ علينا محرّم قصصَ شهادتهم الغضّة ويخبرنا عن طفولة فوق العادة فاز أبطالها الصغار بإحدى الحسنيين وذاقوا، على قصر أعمارهم في الحياة، حلاوة طعم الشهادة.

كيف نفهم حقيقة وغاية وجود الأطفال في معركة كربلاء؟ ولماذا لم يرأف بحالهم الأعداء حتى أمعنوا فيهم قتلاً وتعذيباً وأسراً وتشريداً؟ وما هي أبرز الشواهد على تعمّد استهداف الطفولة في هذه الواقعة؟ وكيف نتعلم من الأطفال الأبطال في عاشوراء دروساً تضج بالعبر لكل طالب عزّة وفداء؟ أسئلة قد تدور في خلد المطلع على وقائع السيرة الحسينية توجهنا بها إلى قارئ العزاء وخطيب المنبر الحسيني فضيلة الشيخ إبراهيم بلوط الذي قدّم لنا عبر أجوبته معرفةً وفهماً للعديد من مقدّمات واقعة الطف وأحداثها وما جرى فيها، كما أضاء لنا على تحليلات تجلي الكثير من الحقائق حول هذه الواقعة التاريخية.

* عظمة التضحية من عظمة الهدف
الإمام الحسين عليه السلام كان يدرك أن المعركة مع جيش يزيد واقعة لا محالة في كربلاء، فلماذا أخرج معه الأطفال؟


إن هذا السؤال هو واحدٌ من الاعتراضات التي قد يعترض بها علينا بعض الناس مع العلم أن في هذه الإشكالية عدة مشاكلات ومشابهات في التاريخ، وأعتقد أن عدم الإحاطة بالأمور التاريخية وعدم إدراك مفاصل القرآن الكريم يجعلنا نطرح مثل هكذا تساؤلات. ولقد حدّثنا القرآن الكريم عن السيدة مريم الصّديقة التي لم يرد بها الله سبحانه الابتذال أو المهانة، والعياذ بالله، وإنما علم بأن أمرها سيكون عظيماً وستُذم من قبل بني إسرائيل حتى أن هذه العفيفة الطاهرة تمنّت الموت فقالت: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا إلّا أن المسألة احتاجت إلى تضحية وتحمّل مسؤوليّة حمل عبء الرسالة مع النبي الذي سينمو في أحشائها ويولد لكي ينسخ شريعة النبي موسى عليه السلام ويأتي بشريعته فيكون وإياها حجة على العباد، لذا أراد الله لسيدتنا مريم عليها السلام أن تضحي لأجل هذا الأمر العظيم. وحادثة كربلاء عندما ندرسها، ندرك أن المطلوب في مقام ما حادثٌ خطيرٌ وعظيم، يرفع السبات والظلم والجور، ويعيد الكتاب إلى حقيقته والدين إلى جوهره. فمن يتصفح التاريخ يدرك أن رسالة الإسلام، في ذلك الحين، قد مُحيت وهو ما قاله الإمام الحسين عليه السلام في بعض كلماته حينما طُلب منه مبايعة يزيد فقال: "على الإسلام السلام إذا بُليت الأمة براعٍ مثل يزيد"، وبعدها أعلن عليه السلام أنه لم يخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً إنما خرج لطلب الإصلاح في أمة جده محمد صلى الله عليه وآله ليستنقذها مما هي فيه. ولكي يحقق هدفه هذا خرج وأخذ معه النساء والأطفال مع علمه بما سيؤول إليه الأمر من سبي لزينب عليها السلام وقتل وذبح للأطفال، إلّا أن هذه النهضة وهذه الثورة تحتاج إلى مثل هذه التضحية العظيمة ليُحفظ الإسلام.

* لِمَ التنكيل بالأطفال؟
ماهي الدوافع التي جعلت أعداء الإمام الحسين عليه السلام يستهدفون الأطفال ويمعنون فيهم تعذيباً وأسراً وقتلاً دون أن تتحرك الرأفة في قلوبهم؟

إن للإجابة شقّين:
في الشقّ الأول: نحن نتحدث عن أمّة انحرفت عن مسارها الذي خطّه لها الله سبحانه، وكان الفقر ينهش في أوصالها إلى جانب انحراف العقيدة والسلوك، ورغبة الكثيرين في أن يكونوا إلى جانب السلطان وأن يُشهد لهم عند الأمير في خضوعهم له. وهؤلاء سيطرت الدنيا على قلوبهم، وحبهم لها أغشى أبصارهم حتى باتوا لا يتفكّرون أو يعقلون أو يتدبّرون الأمور، فساروا إلى الإمام الحسين عليه السلام وهو سيّد الأوصياء في زمانه وسبط رسول الله صلى الله عليه وآله، أمه الزهراء، والده علي، جده المصطفى وأخوه الحسن، وكل ذلك كان حجةً عليهم، إلّا أنهم باعوه بدنيا رخيصة وزهيدة وثمن بخس وصل عند بعضهم إلى حفنة من التمر ليس إلّا، وهذا أمر مذهل حقاً، فهذه أمة جديدة عهد بالإسلام، والنبي أخرجها للتو من ظلمة الجهل إلى نور الإيمان وقد فعلوا ما فعلوه.

وفي الشقّ الثاني من الإجابة نقول: يجب أن نعلم أن المخطط لهؤلاء القتلة كان يقوم على قاعدة أنه بقدر ما يكون التنكيل والقتل والتفظيع سيئاً بقدر ما يدبّ الرّعب والرّهبة في أشخاص من الممكن أن يقوموا ويثوروا، وبهذا يبعثون إليهم برسالة مفادها انظروا ماذا فعلنا بحفيد رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يردعنا عن ذلك رادع، فاسكتوا والزموا أماكنكم ولا تحرّكوا ساكناً وإلّا عرّضتم أنفسكم لأمر مماثل، لا سيّما وأن هؤلاء روّجوا لهذا الأمر ومهّدوا له بقولهم إن الحاكم ليس عليه ذنب، وتجب إطاعته براً كان أم فاجراً، وهذا مبدأ ترفضه مدرسة أهل البيت عليهم السلام ولا تقبله بأي شكل من الأشكال لأنها مدرسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

* أطفالٌ شهداء
كثيرة هي قصص الأطفال الشهداء في كربلاء، وفيها تكثر الشواهد على أن الطفولة كانت مستهدفة بكل أشكال التعذيب والتنكيل، فهذا طفل نُحر في حضن أمّه، وذاك التهمته النيران مع حرق الأعداء للمخيم، وطفل آخر تاه في الصحراء وقضى عطشاً، وأطفال تمّ أسرهم وجرّهم في البوادي ليلَ نهار حتى ماتوا من التعب والوهن. وماذا بعد من هذه القصص التي لا تكفي عاشوراء بأيامها العشر لسردها؟

يمكن أن نذكر حادثة قتل ولديْ مسلم بن عقيل، محمد وإبراهيم، اللذَين قُتلا قرب شطّ الفرات. وأن نذكر مثالاً آخر على الطفولة الشهيدة في كربلاء، الطفل عبيد الله بن الحسن الذي كان له من العمر إحدى عشرة سنة، والذي حين رأى عمه الحسين عليه السلام في أرض المعركة وقف في مواجهة الأعداء للدفاع عنه فقطعت يمينه ثم استشهد سلام الله عليه وهو في حجر عمه.

* ميزة واقعة كربلاء
هنا نسأل عن حادثة قتل الطفل عبد الله الرضيع، ما أهمية إبرازها في معرض ذكر السيرة الحسينية في عاشوراء؟

هناك نقطة جوهرية تفترض بنا أن لا ننظر إلى أمر معيّن بشخصه وذاته إنما النظر إلى الأجواء التي أحاطت به، وهي نقطة تضيء على الكثير من الأحداث وترفع كثيراً من الشبهات. ومن باب تقريب الفكرة إلى الذهن فإننا إذا قرأنا سيرة نبي الله إبراهيم عليه السلام كما وردت في القرآن الكريم نلاحظ أنه عليه السلام قال عن القمر هذا ربي، وكذلك عن الشمس، فهنا على مستوى التجرّد نقول إن هذا ليس تصرف الأنبياء، ولكن عندما نأخذ النبوّة معياراً ومقياساً فإن ذلك يضفي قدسية خاصة تعطينا طريقاً مغايرة لتدبر الآية دون أن نغيّر أو نحرّف بها.

فعندما نأتي إلى القرآن الناطق وهم أهل البيت عليهم السلام يقولون لنا إن إبراهيم عليه السلام قال: "هذا ربي؟!" بالصيغة الاستفهامية الاستنكارية، وهنا يختلف المعنى والمقصود والآية تبقى هي هي. ويتابع فضيلته قائلاً: إنما قدّمت هذه المقدّمة لكي أقول إنه يوجد في تاريخ أهل البيت عليهم السلام حوادث تشير إلى ظلم الأطفال كما في عاشوراء، وأذكر على سبيل المثال معركة "فخ" التي جرت في عصر دولة بني العباس ضد أحد أولاد الإمام الحسن عليه السلام وقد قتل في هذه المعركة الكثير من الأطفال، ولكن الذي يميّز واقعة كربلاء أن الحسين عليه السلام كان فيها ولولا وجوده عليه السلام لكانت حادثة كربلاء تعادل مثيلاتها، لا بل لكانت حادثة "فخ" أشد في فظاعة وقائعها خاصة فيما يتعلق بالأطفال الذين لم ينجُ واحدٌ منهم، بل قتلوا جميعهم.

* الإنسانية قتلت في كربلاء
ويتابع فضيلة الشيخ إبراهيم بلوط قائلاً: عندما نأتي إلى عبد الله الرضيع فإن ذكر ما حدث معه كخصوصية من ضمن ما يجب أن يُذكر لفجاعة ما حدث وفظاعته وعظمته، فما جرى هو قتل للإنسانية. ونحن إنما نذكر هذه الوقائع لنبيّنها، ولنُذكّر الناس بواقع الانحدار الذي وصلت إليه هذه الأمة، التي ابتعدت عن الدين الذي يتكامل بها ويرتقي، فهي نزلت إلى قتل الإنسانية بأبهى صورها وإن تنوّعت تفاصيلها، فكان هناك رضيع وغلام وشيخ كبير وامرأة، وكان فصل للرؤوس عن الأبدان وقتل لسيد الشهداء. إنَّ الإنسانية بتمامها قُتلت في كربلاء، والناس بطبعها تتفاعل مع المحسوس، ولذا فهي حتماً ستبدي تأثّرها بقصّة رضيع يُذبح دون ذنب أو جرم.

* عشقٌ للحسين كبير..
وختاماً، فإنّ عاشوراء بأيّامها المعدودة لن تشكّل الحيّز الزمني الكافي لكي نطل على مجمل ما جاءت به هذه الثورة العظيمة ومجمل ما قدّمه شهداؤها الأطفال والكبار. وفي هذا يقول فضيلة الشيخ إبراهيم بلوط: لا نستطيع أن ننهي في بضع ساعات أو ببعض كلمات حدثاً استمر من لدن آدم حتى يومنا هذا، تماماً كما جاء في ردّ الإمام الباقر عليه السلام على سؤالٍ لبعض أصحابه، لن نستطيع أن نقدّم في عشرة أيام حدثاً تجمعت فيه كل الكمالات وفق عالم الإمكان، فنحن قاصرون عن ذلك، فكيف إذا ما قصّرنا، والعياذ بالله، ولم نلتفت إلى كيفية إغناء الناس المحبين والموالين للحسين عليه السلام بدروس وعبر من كربلاء، وهذا ما يدعونا لأن نكون دقيقين على مستوى ما نطرح من مواضيع في هذه المناسبة التي تشكل فترة مختزلة ومختصرة في وقتها وزمنها. وأما على صعيد الطفولة الشهيدة في واقعة الطف فإننا يجب أن نستلهم منها المنهج القويم في تنشئة أطفالنا على حب الحسين عليه السلام، حبّ الخير والفضيلة والقيم النبيلة، وعلى بُغض الشرّ ومحاربته ورفضه بكل الوسائل، وهي تربية تنطلق في أسسها ليس من مرحلة الحمل فحسب، بل من لحظة اختيار الزوج أو الزوجة.

وبعد، إنهم أطفال استوطنت السهام نحورهم عنوة، وعانقت سياط الجلادين أجسادهم النحيلة الطرية، وقطفت يد المنون زهرة أعمارهم، وذنبهم الوحيد أنهم حملوا بين أضلعهم قلوباً صغيرة حملت للحسين عشقاً كبيراً، فألفُ تحية وسلام على الطفولة الشهيدة في كربلاء.


1.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 6، ص 239.
2.م. ن، ج 4، ص 878.
3.كنز العمال، المتقي الهندي، ج 10، ص 58.
4.بحار الأنوار، المجلسي، ج 91، ص 192.
5.وسائل الشيعة، م. س، ج 2، ص 425.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع