آية الله الشيخ عبد الله جوادي آملي
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (الملك: 2). لا تعني كلمة ﴿عَمَلاً﴾ أنه أيّكم أكثر عبادة من الآخرين، لأنّ الحديث في الآية الكريمة ليس عن الحجم أو عن الكميّة. ويجيب الإمام الصادق عليه السلام عندما سأله شخص عن خصوص معنى هذه الآية: "ليس يعني أكثر عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنّما الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة الحسنة... ثمّ قال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يمدحك عليه أحد إلا الله عزّ وجلّ"، ثم قال: "النية أفضل من العمل"(1).
* النيّة والعمل
إنّ أهل الصَّواب والحقيقة يخافون من الله أكثر، قلوبهم خالصة لله سبحانه وتعالى. وعندما يكون العمل خالصاً لله سبحانه لا ينتظر ذلك الشخص المخلِص أن يمدحه أحدٌ على عمله، فإن مطلوب عباد الله المخلَصين هو مدح وثناء الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا فالهدف من خلق الموت والحياة هو لأجل أن يتّضح ويظهر أيّ شخص عمله أقرب للصواب والحقيقة. أما النيّة فهي خيرٌ من العمل، لأنّ النيّة إذا كانت خالصةً لله سبحانه وكانت قويّةً وثابتة، فإنّها هي التي تحثّ الإنسان وتدفعه إلى العمل. وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "أفضل الأعمال أحمزُها"(2). وحيث إنّ أفضل الأعمال أصعبها، والنيّة أفضل من العمل، فهذا يعني أنّ النيّة أصعب من جميع الأعمال. قد يشارك الإنسان في ساحات القتال، ومن الممكن أن يُقتل أيضاً في الحرب، ولكن إخلاص العمل لله هو أصعب من القتال وحتّى القتل في الحرب، وكذلك عدم اتباع الهوى وإطاعة شيطان النفس أمرٌ صعبٌ جدّاً.
* ما هي النيّة؟
ظهر ممّا تقدّم أنّ النيّة هي روح العمل، والنيّة هي انبعاث الروح وتحليقها. فعندما يرتفع الشخص عن عالم الطبيعة يقال: إنّه نوى، ومن هنا قيل: "اسألوا الله بنيّات صادقة"(3). وصحة العمل العبادي يشترط فيها النيّة، ودونها يكون باطلاً. وحيث إنّ النيّة لها مراتب ودرجات، كذلك صحة العمل على مراتب ودرجات. فالنيّة التي هي قصد القربة إلى الله سبحانه، هي روح العمل، هي أرفع وأسمى من العمل وأهمّ منه، وذلك لأنّ حياة العمل مرتبطةٌ بالنيّة، وثواب الأعمال وجزاؤها يقسّم إلى مراتب ودرجاتٍ على أساس نوع النيّة وعلى أساس ما يقصده الإنسان.
* تأثر الإنسان بالنيّة
يروى عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "ما ضَعُفَ بدنٌ عمَّا قَوِيَت عليه النيّة"(4). وحيث إنّ العمل الظاهري للإنسان تابع وجوداً وعدماً لقصده القلبي كذلك هو من ناحية القوّة والضعف، بنحو أنّه لو كانت النيّة قويّة وصلبة فإنّ الجسم الضعيف قادرٌ على القيام بالأعمال الصّعبة والمهمّة، وعلى العكس، فإنّ الجسم القويّ يصعُب عليه القيام بالأعمال السّهلة فيما لو كانت نيّته ضعيفة. وعلى هذا فإنّ قيمة الإنسان الوجوديّة بنيّته لا بجسمه. ويُعد هذا الحديث عن الإمام عليه السلام من أوضح الأحاديث الواردة عن الأئمة عليهم السلام التي تُعرّف الإنسان بأنّه "حيوان ناوٍ"، وتُبيّن أن الإنسان بنيّته. والشاهد الآخر الذي يعطي الأصالة للنيّة، هو أن النيّة إذا كانت قويّة فإنّما تؤثر على مناجاة المصلّي في الصلاة، وتعرج به في الصلاة، وعندما تكون النيّة ضعيفة ويكون المصلّي غافلاً عنها، فإنّ هذا المصلي الساهي سوف يفقد حالة المناجاة، وسوف يستحق عليها "الويل". يقول الله سبحانه: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ (الماعون: 1 4).
* الإخلاص والرياء
للعقل العملي شؤون وآثار، كالإرادة والإخلاص. ويُعتبر هذا العقل بمثابة نور ووسيلة للمعرفة ولعبادة الله سبحانه، ويُكتسب به الجنان في الختام (5). وكلّما سطع هذا النور من دون أيّ مانع أو خسوفٍ فيه يُوجِد حالة الإيمان والإخلاص. وإذا تعرّض هذا العقل إلى الكسوف بسبب اتّباع هوى النفس فيحرّك في النفس حالة الكفر والرياء. وقد روى الكُليني رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس بين الإيمان والكفر إلا قلّة العقل، قيل: وكيف ذاك يا ابن رسول الله؟ قال: إنّ العبد يرفع رغبته إلى مخلوق، فلو أخلص نيّته لله لآتاه الله الذي يريد في أسرع من ذلك"(6). يقول حذيفة بن اليمان: "سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الإخلاص، فقال: سألته عن جبريل، فقال: سألته (أي جبريل) عن الله تعالى فقال: الإخلاص سرٌّ من سرّي، أُودِعُه في قلب مَن أحببته"(7).
عندما يصبح السالك محبّاً لله سبحانه وتعالى؛ يتّبع الأقوال النازلة على لسان حبيب الله، الوجود الأقدس للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فإن اتّباعه صلى الله عليه وآله وسلم سبب لمحبوبيّة الله تعالى، يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ (آل عمران: 31). وفي هذه الحالة، يتحقق عملياً الوعد الإلهي، لأنّه ورد في الوعد: "وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها..."(8). وعلى هذا، فالإخلاص -الذي هو الأساس في النيّة- له حِكمة ملكوتيّة، لا يصل إليه غير ذلك الشخص الذي صار حبيباً لله، ولا يحبّ اللهُ أحداً ما لم يتقرّب إليه بالفرائض والنوافل.
* الرّياء
وهو أن يظهر الشخص للناس أنّ ما يقوم به هو لله سبحانه، بينما في حقيقة الأمر لا يكون عمله لله. والسُمعة تعني أن يصل إلى الآخرين أنّه يعمل لله، والحال أنّه ليس كذلك. والرياء والسمعة يبطلان العمل العبادي لو دخلا فيه. فقد ورد في بعض النصوص أنّه لو قام شخص بعملٍ خَيِّر، ثمّ حدّث به الناس، فإنّه سينقص مقدارٌ من ثوابه، وإذا حدّث به مجدّداً، فسوف ينقص أيضاً من الثواب، وهكذا حتى لا يبقى لعمله الخيّر هذا أي ثواب أبداً. تماماً مثل بستاني أنشأ حديقة ورود، فلو قام بلمس أوراق الورود وكرّر هذا الأمر، فإنّ الورود سوف تذبل ويقلّ عطرها. وعمل الخير عندما يحدّث به فاعلُه، يشبه عمل البستاني هذا عندما يلمس ورود حديقته، وهكذا حتّى تذبل الورود وتيبس ولا يعود لها أيّ قيمة وأيّ أهميّة وجمالية.
* موارد الشّرك
النيّة ضروريّة في العبادات، وأما في الأعمال غير العباديّة فهي غير ضروريّة وليست شرطاً للقربة إلى الله تعالى. نعم يمكن له أن ينوي القربة فيها. وإذا ابتُليَ بالرياء فإن ذلك سوف يؤثر على العمل أيضاً، فعلى سبيل المثال: ليس من الضروري عند غسل اليد المتنجسة نيّة القربة إلى الله تعالى، ويكفي لتصبح طاهرة أن تغسل بالماء، ولكن لو أنّ شخصاً قام بغسلها ليظهر للناس رياءً أنّه يريد رضا الله تعالى بهذا التطهير فعمله هذا رياء. فالشرك في العمل حرام، وفي النتيجة لن يقبل منه لأنّه عملٌ ناقص ولا يعبد الله به.
لقد ورد في خطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في استقبال شهر رمضان: "فاسألوا ربكم بنياتٍ صادقة وقلوبٍ طاهرة"(9). يتعرّض الإنسان دائماً لهجوم الوسوسات الشيطانيّة. والشيطان لا يترك النفس الإنسانية، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الأعراف: 200). فإذا خطرت في أذهانكم المعصية، فاحذروا الشيطان، فإنّه يشنّ هجومه عليكم، وعند هذا الهجوم لا بدّ من اللجوء إلى حصنٍ يمنع من الشيطان وهجماته.
ولا يكفي الاقتصار على قول "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" عند الوسوسة، فأثرها لا يتجاوز محدوديّة الألفاظ، فعندما تطلق صفّارة الإنذار لا بُدّ من الذهاب إلى الملاجئ أو إلى الأماكن الآمنة. أشعِروا أنفسكم الضعف، واستعيذوا بالقوي المطلق الذي لا غالب له، وهو الله الملجأ والمستعان في كلّ الأحوال، وهو الذي يقول: ﴿وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ (الكهف: 27).
* الملائكة ورائحة النيّة
يقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ (البقرة: 284)، فإنّ هذه الأسرار القلبية الّتي لم يطّلع عليها أحد، سوف يحاسبنا الله عليها، لكن السؤال هو كيف تطّلع عليها الملائكة وكيف تسجلها؟ سئل الإمام موسى الكاظم عليه السلام عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله أو الحسنة؟ فقال: "ريح الكنيف(10) وريح الطيب سواء؟ قلت: لا، قال: إن العبد إذا هَمّ بالحسنة خرج نَفَسُهُ طيّبَ الريح فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال: قُم فإنه قد همَّ بالحسنة، فإذا فَعَلها كان لسانُه قلمَه وريقُه مدادَه فأثبتها له، وإذا هَمَّ بالسيئة، خرج نَفَسُه منتن الريح فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين: قف فإنه قد همّ بالسيئة، فإذا هو فعلها كان لسانُه قلمَه وريقُه مدادَه وأثبتها عليه"(11).
على كلّ حال، فإن الإنسان إما بصدد حفر كنيف، أو حفر بئر ماء ورد وعطر، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ*فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ (الواقعة: 88 89)، إضافة إلى أنّه بانتظار هذا الشخص ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ﴾ (البقرة: 25) فيصبح رَوحاً ورَيحاناً، وفي غير هذه الحال لو رفع الغطاء لظهر أمام الجميع وافتضح بأعماله القبيحة.
1.الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 16.
2.بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 67، ص 191.
3.من خطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان، الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 154.
4.وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 1، ص 38.
5.عن الإمام الصادق عليه السلام لما سئل عن العقل قال هو "ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان"، الكافي، ج 1، ص 11.
6.الكافي، م. س، ج 1، ص 28.
7.جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج 1، ص 375.
8.الكافي، م، س، ج 2، ص 352.
9.إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس، ج 1، ص 26.
10.الكنيف هو المكان الذي تجتمع فيه مياه أوساخ المرحاض.
11.الكافي، م. س، ج 2، ص 429.