الشيخ نعيم قاسم
بعد حمده لله تعالى على استخلاصه لأوليائه، يبيِّن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه في دعاء الندبة ما أعطاه الله تعالى لهم بقوله: "إذِ اخترتَ لهم جزيلَ ما عندك من النّعيم المقيم، الذي لا زوال له ولا اضمحلال"(1). وجزيل العطاء كثيرُه، وفي الجنة "ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر".
والأولياء هم: ﴿السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ*أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ (الواقعة:10 11)، يحصلون على الخلود الأبدي، الذي لا ينقص، ولا يفنى، ولا يصيبه البلاء، فهو نضرٌ مليئٌ بالحياة المشفوعة بالقرب الإلهي والرضوان, بطمأنينةٍ وسكينةٍ وراحةٍ حقيقيةٍ في جنب الله العزيز. القادةُ الأولياء، هم الأنبياء والأئمة، عرَّفنا الله تعالى إليهم، وإلى تجاربهم وتضحياتهم وتفانيهم فيه تعالى، ما جعلهم ينالون من موقعهم البشري المبُتلَى أرفع الدرجات وأعظمها، ومن النعيم المقيم ما قد استحقوه بجدارة. التلازم قائم بين الالتزام بأوامر الله تعالى ونواهيــه وبين الدرجــات الرفيعة في جنّة الخلد يوم الحساب.
• البلاء يميّز المؤمن من الكافر
يُعطي الله الأولياء والصالحين بسخاء الغني الذي لا ينقصُ من خزائنه شيء، وقد أعلمهم أنَّ الدنيا دارُ بلاء، والآخرة دار استقرار ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار﴾ (غافر: 39). ومن مستلزمات البلاء الاختباراتُ المتنوعةُ التي تكشف معدن الإنسان، بحيث يتميز معها المؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت: 3). وعندها يعيش الصّادقون في النعيم الأبدي، مادياً ومعنوياً، وهذا هو الفوز العظيم الذي لا يعادله فوز على الإطلاق ﴿قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (المائدة: 119).
هل يمكننا إدراك معنى النّعيم المقيم، أي الإقامة المحاطة بالنّعيم، أو النّعيم القائم الذي لا يخبو؟ إنها الإقامة الأبدية في منزل الحياة الخالدة، في جنات تجري من تحتها الأنهار ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلأبْرَار﴾ (آل عمران: 198).
• التزام الأوامر الإلهية
كيف نال الأولياء هذا المقام العظيم؟
إنما نالوه بعملهم وجهادهم في هذه الدنيا، حيث قدَّموا أغلى ما عندهم، وتعاطوا مع الدنيا على أنها متاعٌ زائل، فزهدوا بها، ولم يتعلّقوا بحطامها. وقد كان هذا الأداء هو شرط الله تعالى عليهم في هذه الدنيا. بمعنىً آخر: خلق الله تعالى الإنسان وخطَّ له طريقين: طريق الهدى وطريق الضلال، فمن أراد طريق الهدى التزم أوامره ونواهيه، وله أن تكون مكافأته عظيمة، فالتلازم قائم بين الالتزام بأوامر الله تعالى ونواهيه وبين الدرجات الرفيعة في جنّة الخلد يوم الحساب. وهذا ما عبَّر عنه الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه في دعاء النّدبة بقوله: "إذِ اخترت لهم جزيل ما عندك، من النعيم المقيم، الذي لا زوال له ولا اضمحلال, بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدَّنية وزخرفها وزبرجها, فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم الوفاء به، فقبلتهم وقرَّبتهم وقدَّمت لهم الذكر العلي، والثناء الجلي، وأهبطت عليهم ملائكتك, وكرَّمتهم بوحيك، ورفدتهم بعلمك، وجعلتهم الذريعة إليك، والوسيلة إلى رضوانك".
لاحظ معي هذا الترابط الوثيق بين التزام الإنسان وعطاء الله تعالى، وهو ليس التزاماً سطحياً عابراً، إنه العطاء في سبيل الله تعالى في أقصى مراتبه ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ﴾ (النور: 36). فيحصل نتيجته فتح خزائن الرحمة الإلهية على مصراعيها من غير حساب ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب﴾ (النور: 38).
• الزهد بين كلمتين
إنَّ البذل عند الإنسان المؤمن في سبيل الله تعالى, تترجمه الحركة الدؤوبة في هذه الدنيا لنصرة الحق, بحيث يزهد المؤمن بما بين يديه، أملاً بما عند الله تعالى، فعن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "كأني بقومٍ قد خرجوا بالمشرق، يطلبون الحق فلا يُعطَونه، ثم يطلبونه فلا يُعطَونه، فإذا رأَوا ذلك، وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فَيُعطَون ما سألوه، فلا يقبلونه حتى يقوموا، ولا يدفعونها إلاَّ إلى صاحبكم، قتلاهم شهداء، أما أني لو أدركت ذلك، لاستبقيت نفسي لصاحب الأمر"(2). هذا المؤمن لا تغريه الدنيا مهما أقبلَتْ، فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله سبحانه: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾, ومن لم يأسَ على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخَذَ الزهد بطرفيه."(3).
• الزهد في قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
إنها مدرسة الإسلام العظيم، مدرسة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الأطهار عليهم السلام في صياغة النظرة إلى الدنيا والعمل فيها من موقع الزهد بها، ﴿وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (الأعلى: 17). وقد روي أنَّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام قال: "يا رسول الله علّمني الزهد، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي, مثِّل الآخرة بين عينيك والموتَ في قلبك، ولا تنسَ موقفك بين يدي الله، وكنْ من الله على وَجَلْ, وأدِّ فرائضه، واكفف (وجهك) عن محارمه, ونابذ هواك، واعتزل عن الشك والشُبَه والحرص والطمع، واستعمل التواضع والنَصَفَة وحسنَ الخلق ولينَ الكلام، واخضع لقبول الحق من حيث وَرَدَ عليك، واجتنب الكبر والرياء ومشيةِ الخُيلاء، ولا تستصغر نِعَمَ الله وجازِها بالشكر، واحمدِ الله على كل حال، وانصف من ظلمك، وصِلْ من قطعك، وأعطِ من حَرَمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وليكن صمتُك تفكراً ونظرك اعتباراً، وتجنَّب الريب ما استطعت، وعاشر الناس بالحُسنى, ونابذ هواك واعتزل, واصبر على النازلة، واستهن بالمصيبة، وأطِلِ الفكر في المعاد, واجعل شوقك إلى الجنة، واستعذ بالله من النار، وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وخذ من الحلال ما أمكنك، وجانب الشح والمنع والسرف، واعتصم بالإخلاص والتوكل، ودع الظن وابنِ على أساس اليقين، وميِّز ما اشتبه عليك بعقلك فإنَّه حجةُ الله عليك وبرهانُهُ عندك ووديعتُهُ قبلك. فذلك أعلام الزهد ومناهجه، والعاقبة للمتقين, وقد خاب من افترى, ولا يظلم ربُّك أحداً"(4).
1.إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج 1، ص 504.
2.الغيبة، النعماني، ص 281.
3.نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 4، ص 102، حكمة 439.
4.جواهر المطالب في مناقب الإمام علي عليه السلام، ابن الدمشقي، ج 2، ص 148.