الشيخ محمد توفيق المقداد
لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إنّ المال هو من أهمّ احتياجات الإنسان في الحياة الدّنيا؛ لأنه الوسيلة لتأمين مستلزمات العيش من مأكل ومطعم ومشرب وملبس ومسكن..، وغير ذلك من الاحتياجات الّتي هي مورد اهتمام الإنسان في الجانب المادي الصّرف من الحياة. إلّا أن النقطة الجديرة بالبحث هي أنّ هذا المال قد يكون متوافراً عند أشخاص، بالمقدار الذي يجعلهم مندرجين تحت عنوان "الأغنياء"، ولا يكون كذلك عند آخرين، فيندرجون تحت عنوان "الفقراء".
والإسلام يقرّ بهذه الحقيقة الموجودة في المجتمع وذلك من خلال ما ورد في الآيات والروايات عن مسألة الغنى والفقر. أما فيما يختص بمدار بحثنا عن "الغنى ومظاهر الترف" فقد وردت آيات وروايات منها ما تعرض لذمِّ الغنى وبيان أنه مبغوض عند الله تعالى، ومنها ما ورد في مدح الغنى وبيان أنه من النعم الإلهية على هذا الإنسان.
* غنىً مذموم وغنىً ممدوح
أما الغنى المذموم فقد ورد بشأنه من الآيات والروايات ما يلي:
1ـ ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق: 6 7).
2ـ ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ﴾ (المؤمنون: 55 56).
3ـ ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة: 34).
4ـ عن الرسول صلى الله عليه وآله: "إن الشيطان قال: لن ينجو مني الغني من إحدى ثلاث: إمّا أن أزيّنه في عينه فيمنعه من حقه، وإمّا أن أسهّل عليه سبيله فينفقه في غير حقه، وإمّا أن أحبّبه إليه فيكسبه بغير حقه"(1).
5ـ وعنه صلى الله عليه وآله: "الغنى عقوبة"(2).
6ـ عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الغنى يُطغِي"(3).
أما الغنى الممدوح فقد ورد فيه:
1ـ ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 34).
2ـ ﴿َّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء... ﴾ (البقرة: 261).
3ـ ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون﴾ (البقرة: 262).
4ـ عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "نِعْمَ العون على تقوى الله الغِنى"(4).
5ـ عن الإمام الباقر عليه السلام: "لما ذُكِر عنده من الأغنياء من الشيعة، فكأنه كره ما سمع ما فيهم، قال عليه السلام: إذا كان المؤمن غنياً رحيماً وصولاً له معروف إلى أصحابه، أعطاه الله أجره ما ينفق في البر وأجره مرتين ضعفين لأن الله تعالى يقول في كتابه: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾".
* شكر المنعم وعدم الإسراف
وأما كيف ينبغي للغني التصرّف في ماله فهذا الأمر له فرعان لا بدّ من الحديث عنهما:
1ـ عدم الإسراف والتبذير:
المال نعمة من الله وزينة، وعلى الإنسان أن لا يبطر بتلك النعمة فيصرفها في غير وجوهها الشّرعية والعرفية، بحسب حاله وشأنه فيصل إلى حدّ الإسراف والتبذير، أما الإسراف فهو المبالغة في الصّرف على شؤون المعيشة بما يتجاوز حدّ الاعتدال المتعارف عليه. وأما التبذير فهو صرف المال فيما لا نفع فيه ولا فائدة خصوصاً إذا كان من المحرّمات كالقمار والخمر وما شابه ذلك. وقد ورد الذم في القرآن لهذين المفهومين حيث قال تعالى: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف: 31)، وقال أيضاً: ﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾ ( الإسراء: 26)، وقال: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ (الإسراء: 27).
2ـ شكر المنعم والإنفاق:
على الغني أن يشكر نعمة ربه فينظر إلى مَنْ حوله من الفقراء من أرحامه لأن الأرحام الفقراء أولى من غيرهم، ثم الفقراء من معارفه وأصدقائه ممن لم يُوفَّقوا لكسب ما يكفي من المال لإعالة أنفسهم وعوائلهم. وهذا الإنفاق هنا دليل عدم تملُّك المال للإنسان، بل دليل على تملُّك الإنسان للمال وقدرته على التصرّف به بما يرضي الله عزّ وجلّ، طمعاً في الأجر والثواب العظيمين اللّذين أعدهما الله سبحانه للمنفقين من أموالهم لسدِّ حاجات المعوَزين والمحتاجين، ولذا قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ (التوبة: 103)، وقال تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّون﴾ (آل عمران: 92). وهذا الإنفاق على الفقراء يحقق نوعاً من التوازن في مسيرة المجتمع الإسلامي ويمنع الكثير من الظّواهر السّلبية التي يمكن أن تكون سبباً في تدمير أمن وسلامة المجتمع.
* مداراة حال الناس
وأمّا الفرق بين الغني الذي يداري الناس وبين من لا يداريهم فهو أنّ الأول يعمل على عدم التباهي بغناه ويسعى لأن تكون معيشته غير ملفتة لنظر الناس خصوصاً الفقراء، مع أنّه يصرف من ماله على شؤون معيشته، ولكن لا بنحو يشار إليه بالتكبر والترفع عن الناس الآخرين عملاً بقول النبي صلى الله عليه وآله: "أُمرِتُ بمداراة الناس كما أُمِرت بتبليغ الرسالة"(5)، ويعمل على إظهار نعمة الله عليه من خلال مخالطة الناس ومساعدتهم بما أمكن من النعم التي أنعمها الله عليه، بينما الثاني هو الذي يتباهى بماله ويتكبر على الناس خصوصاً الفقراء ويعتبر أنه أرفع شأناً منهم. وهذا الإنسان يدل تصرفه عادة على تحكم المال به وتملكه له، ولذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "استعيذوا بالله من سكرة الغنى، فإنّ له سكرةً بعيدة الإفاقة"(6). ولا يخفى ما في هذا التصرّف من المفسدة لحياة الناس الفقراء، ولذا نجد في تاريخ البشرية الكثير من الثورات التي قام بها الفقراء من أبناء الشعوب ضد الطبقات المرفّهة والغنيّة والتي كانت تسرف وتبذّر في صرف المال، ولذا نجد أنّ أبا ذر الغفاري رضي الله عنه لما رأى التمايز في المعاملة بين المسلمين زمن الخليفة الثالث والمحاباة في العطاء لأناس دون آخرين، بحيث إنّ المقرّبين يتنعّمون بحياتهم، بينما غيرهم قد لا يجد قوت يومه، قال كلمته المشهورة: "عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه"(7).
* وصية الإسلام: لا تبطروا
من هنا نرى أن الإسلام يوصي في تعاليمه من توافرت لهم نعمة الغنى والثروة أن لا يبطروا، وأن لا يكونوا بخلاء من جهة أخرى كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ (الإسراء: 29). وفي الختام، فإن كلّاً من الغنى والفقر امتحان من الله لعباده كما عن الإمام علي عليه السلام: "الغنى والفقر يكشفان جواهر الرجال وأصنافها"(8)، أو كما ورد عنه عليه السلام: "قدَّر الأرزاق فكثَّرها وقلَّلها، وقسَّمها على الضيق والسعة فعدل فيها ليبتلي من أراد بميسورها ومعسورها، وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرها"(9). وأخيراً نسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا في دنيانا ما يعيننا على الوصول إلى الآخرة؛ لأن غنى النفس هو الغنى الأكبر.
(1) ميزان الحكمة، الريشهري، ج 3، ص 2302.
(2) بحار الأنوار، المجلسي، ج 69، ص 68.
(3) عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص 35.
(4) الكافي، الكليني، ج 5، ص 71.
(5) علل الشرائع، الصدوق، ج 2، ص 604.
(6) ميزان الحكمة، م. س، ج 2، ص 1322.
(7) النظام السياسي في الإسلام، محمد باقر القرشي، ص 247.
(8) ميزان الحكمة، م. س، ج 3، ص 2303.
(9) م. ن.