حوار: منهال الأمين
يرى المؤرخ والمحقق الشيخ جعفر المهاجر أنَّ المؤرخين المهتمين بالتاريخ الشيعي يقفون كثيراً عند محطة كربلاء. فالتشيع نهض بعد كربلاء، وأصبح حالة إنسانية، وله حضور سياسي. ولكن يبقى السؤال: لماذا هذا التحول بعد كربلاء؟ الجواب يكمن ليس فقط في كربلاء كل كربلاء، بل حتى خارج زمانها ومكانها.
* كربلاء "الكبرى"
يتابع الشيخ المهاجر:
"أظن أنّ كربلاء لو انتهت عند مقتل الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته، لما وصلنا إلى النّتائج التي تحقّقت حتى يومنا هذا. فقد كان همّ الكوفيين أن تطمس معالم الجريمة، لأنّها نقطة عار في تاريخهم، وكذلك الأمويون أرادوا التَّعمية على قتلهم ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن خروج السبايا، وبالطريقة التي تمّ بها بعد كربلاء، كان عملاً غبياً، وأعتقد أنّه كان من مكر الله تعالى، وإلا فما هي مصلحة بني أمية في إنفاذ أمر لا سابقة له، من خلال حمل أطفال ونساء، حتى لو لم يكونوا ينتسبون إلى بيت النبوة، واستعراضهم على الملأ على مدى ألفي كيلومتر بين العراق والشام؟ هل من يفعل ذلك يظنّ أنّ النّاس بلا قلب؟ برأيي إن هذا العمل الغبي هو الذي أثار ردات الفعل الهائلة فيما بعد.ولكن ما هي أهداف الذين أقدموا على فعل السَّبي بغض النظر عن النتائج؟ هل هو بث الرعب في نفوس المسلمين مثلاً؟ عبيد الله بن زياد، وهو في لحظة الغرور والعنجهية المتأتية من الشعور بالانتصار الهائل المتمثل بجعل عدوّته أي مدينة الكوفة تقتل عدوّه (الإمام الحسين عليه السلام)، على ما يبدو، أراد أن يقدّم للنّاس نموذجًا لمصير من يقف في وجه بني أمية، وأراد من خلاله أن يهز الناس ويجعلهم يفكّرون ألف مرة قبل أن يقدموا على أي عمل اعتراضي ضد السّلطة الأموية.
* سابقة السبي
ويشدِّد الدكتور الشيخ المهاجر على أنّ ما تقدّم يندرج في سياق التحليل لا التأريخ، "محاولين أن نعلّل خلفيات وأبعاد العمل الذي أقدم عليه ابن زياد، والذي لم يكن له سابقة لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وذلك أن يُقدِمَ الطرف المنتصر، وبعد انتهاء المعركة، على حمل النساء والأطفال والتطواف بهم في البلاد في حرِّ الشمس وقرّ البرد، أو أن يُقتل شخص ومن ثم يؤتى بالخيل لكي تدوس على جسده الممزق فهذا فعل لم تعتد عليه العرب ولا سابقة له على الإطلاق".
- ولكن ما هي أجواء الناس النّفسية حيث مرّ موكب السبايا؟
هناك مفهوم خاطئ عن تلك المرحلة، وهو أن بني أمية كانوا يسيطرون على منطقة الشام وكانوا يملكون قلوب الناس، وهذا غير صحيح. فالأموي ربما كان يهيمن على الشام، ولكنه لم يكن خارجها كذلك. وحيث توجد سطوتهم، ليس بالضرورة أن توجد محبتهم. بل إن ميل الناس لأهل البيت في تلك الفترة كان واضحاً وجلياً. وبالعودة إلى موضوع السبي، فإن الأمويين روجوا أن هؤلاء السبايا هم خارجون على "أمير المؤمنين"، ولكنّ الناس، الذين كانوا يُرغمون على الخروج والاحتفال بهذا الانجاز، كانوا يفاجؤون بأطفال ونساء ينكّل بهم، ومهما كان الإنسان عديم الشفقة، فإنه لا بد أن يتألم لهذا المنظر الوحشي، بغض النظر عن خلفيات الخلاف بينه وبين هؤلاء القوم الذين يراهم. أضف إلى ذلك حساسيّة العربي تجاه المرأة وحرمتها. على أيّ حال، ربما استطاع الأمويون خداع بعض الناس بدعاياتهم لبعض الوقت، ولكنهم لم يتمكنوا من خداع كل الناس كل الوقت. وأما محاولة بني أمية الالتفاف على هذا العمل، فهو قد يتعلق ربما بنشاط بعض النسوة في موكب الأحزان، كالعقيلة زينب عليها السلام أو أختها فاطمة أو السيدة سكينة بنت الحسين عليها السلام وهو ما لم ينصفه التاريخ كحقائق ووقائع تاريخية تثبت في بطون الكتب، إذ كان لهن مواقف شجاعة وفعّالة في الكوفة وفي الشام جعلت الناس تستيقظ وتسأل: ما الذي يجري؟ ومن هؤلاء؟ ولماذا يصنع بهم ما لم يصنع مع أحد من قبل؟
- ولكن ألم يحصل نوع من الحوار بين السبايا والناس؟
إن كل ما يقال في ذلك هو غير مقبول تاريخياً. والملفت أن الموكب كان يتعمد المرور في الأماكن البعيدة عن المدن وعن التجمعات السكانية، إلا في حماه وذلك لوجود قلعتها في وسطها واضطرار العسكر للدخول إليها. ولذلك نجد هناك مسجداً يُعرف بمسجد الحسنين، هو أحد المشاهد التي بناها الناس حيث نزل الموكب، وهو موجود قرب القلعة.
* الانقلاب
يلفت الدكتور المهاجر إلى أننا لا نملك بين أيدينا ما يخبر عن ردة فعل الناس الأوّلية، ولكن هناك أمر ملاحظ ومهم وهو أنه في كل مكان نزل فيه الموكب ولامست الأجساد الطاهرة الأرض، بُني مشهد. طبعاً مع الالتفات إلى الفرق بين المشهد والمقام، فالأول هو نصب تذكاري، يخلِّد حدثاً أو شخصاً معيناً، فمن الموصل وحتى دمشق بنيت ثمانية مشاهد على الطريق بين المدينتين، وهي باقية حتى اليوم، كذلك من المؤكد أن هناك مشاهد مندثرة، وهذا يدل على وجود حالة انفعالية عاطفية هائلة جعلت الناس يخلّدون الحدث، خاصة بعد أن تبيّن لهم حقيقة هؤلاء الناس.
- ماذا عن التفاعل السياسي؟
توجد نصوص مدهشة في هذا المجال. حتى أن أهل الشام شعروا بحالة شديدة من السخط والغضب. فعبيد الله بن زياد حينما أقدم على قتل الإمام عليه السلام، ارتفعت مكانته عند يزيد، ولكن فيما بعد حينما بدأت الناس تتكلم، وتعبّر عن غضبها، بدأ التراجع في المواقف، بإلقاء اللوم وتبعة ما جرى على عبيد الله بن زياد. كما أن هناك نصوصاً تدلُّ على أن أهل الشام كانوا يلعنون يزيد علنًا. وهو يعبّر عن ذلك في كلامه حيث يقول: "وأبغضني البر والفاجر بما استعظم الناس من قتلي حسيناً..."(1). فإذًا، يزيد يتبرأ من الجريمة ويحملها كاملة لابن زياد. وفي هذه الظروف فإن البيت الأموي كله انقلب حاله، محملاً المسؤولية ليزيد الذي بدوره قذف بها إلى واليه على الكوفة. وهناك نصوص تاريخية مهمة تعبّر عن وضع البيت السفياني يومها، وكيف انهار تحت وطأة العار، الذي لحق به جراء ارتكابه جريمة قتل الحسين عليه السلام.
* الموكب وخارطة الطريق
يعتمد الشيخ المهاجر في بحثه التاريخي حول مسير السبايا من كربلاء إلى دمشق، على من يسميه المصدر الأساس لدعم رواية مرور السبايا في بعلبك، وتحديداً في منطقة رأس العين، والمصدر هو أبو الحسن علي بن أبي بكر الهروي (ت: 611هـ/ 1214م)، وهو "الذي صرف جهده فيما نسميه اليوم التاريخ الجغرافي أو الجغرافيا التاريخية... وهو بمنهجه هذا أشبه بالآثاري الذي يقرأ التاريخ من خلال ما تركه صانعوه على ظهر الأرض أو في باطنها... وكان أثناء تجواله في البلاد يسجل المعلومات عما يشاهده فيها ومن الثمرات الباقية من تلك التسجيلات كتابه النفيس (الإشارات إلى معرفة الزيارات)، وهو المصدر الأساس لبحثنا" (2). ويرى الشيخ المهاجر أنّ الهروي سجَّل "ما يعطينا اليوم صورة واضحة لخريطة حركة موكب السبايا، وذلك من خلال ما ذكره عن المشاهد التي بناها الناس، بمبادرة منهم، حيث نزل الموكب، في المحطات الرئيسة على طريقهم الطويل" (3). وهو يلفت إلى أن "الفضل الأساس في هذا هو لأولئك الناس المجهولين، الذين بادروا، منذ اللحظة التي انفتحت فيها عيونهم على الحقيقة الرهيبة، فبنوا تلك المشاهد... لكن تخصيص أولئك الناس بفضل السابقة، لا ينتقص أبداً من فضل الهروي، الذي جاء بعد ما يزيد على خمسة قرون، ليسجل لنا ما عاينه مما بقي من تلك المشاهد. فلولاه، لولا غرامه بالتجوال في البلاد، وأيضاً لولا أنه تفحص معالمها واعتنى بتسجيلها بحيث وصلت إلينا، لما كان لنا أن نكتب اليوم هذا البحث، على نحو مرضٍ، من حيث الدقة والوثاقة" (4). وبحسب الهروي فإن المشاهد التي بنيت على طريق موكب السبايا هي:
1ـ مشهد مسجد الحنّانة: شمال شرق النجف.
2ـ مشهد الموصل.
3ـ مشهد نصيبين: وهي مدينة تركية اليوم على حدود القامشلي. وفيها ثلاثة: مسجد زين العابدين عليه السلام مشهد الرأس مشهد النقطة.
4ـ مشاهد بالس / مسكنة: بلدة قديمة غطَّاها السدّ الذي أنشأ بحيرة الأسد، وبنيت قرية جديدة تحمل الاسم نفسه. وأما ما بقي من القرية القديمة، فمشهدان هما:
أـ مشهد الطرح
ب مشهد الحجر.
وكلاهما على الضفة اليمنى لـ "بحيرة الأسد".
5ـ مشاهد "جبل الجوشن": وهو مرتفع صخري غرب حلب.
6ـ مشهد حماه.
7ـ مشهد حمص.
8ـ مشهد بعلبك.
9ـ دمشق: وفيها مشهدان:
أـ مشهد الرأس، وهو في بناء مستقل، ملاصق للجامع الأموي.
ب مشهد زين العابدين، ومنه نصل إلى مشهد الرأس.
(1) الطبري، ابن الأثير، الكامل في التاريخ.
(2) موكب الأحزان، الشيخ الدكتور جعفر المهاجر، جمعية المعارف، 2011، ص 11ـ 12ـ 13.
(3) م.ن، ص 14.
(4) م.ن، ص 15.