السيد حسن نصر الله
إنّ مناسبة ذكرى أربعين الإمام الحسين عليه السلام عندما نحييها تكون تجديداً لما جرى يوم عاشوراء. فما حدث في ذلك اليوم كان صراعاً بين الحقّ والباطل، بين الوفاء والغدر وبين العدل والظلم. إنه أيضاً يوم تجديد لموكب السبايا ولما جرى بعد عاشوراء. إن رحلة السبي الطويلة للنساء والأطفال، لم تكن خطوة عشوائية، بل لقد أرادها القتلة لأهداف. لقد كانت رحلة السبي حزينة ومأساويّة من كربلاء إلى الكوفة وعلى امتداد 2000 كيلومتر في ذلك الوضع وفي تلك الظروف، وصولاً إلى بلاد الشام، إلى الأراضي اللبنانية، إلى مدينة بعلبك، وحتى دمشق التي كانت في ذلك الحين عاصمة يزيد (بن معاوية).
* الموكب المقدّس
هذا الموكب التّاريخي الجهادي الحزين والصّابر والمحتسب والشامخ في الإيمان والتوكل، كان يضمّ الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، بقيّة النّبوّة والرّسالة، وأهل البيت عليهم السلام ومجموعة كبيرة من النساء، وفيهنّ بنات وأحفاد رسول الله محمد صلى الله عليه وآله ونساء من زوجات أولئك الشُّهداء الشُّجعان الأوفياء الذين قُتلوا في كربلاء وجمع من الأطفال الأيتام، ومع الموكب رأس أبي عبد الله الحسين عليه السلام ورأس أبي الفضل العباس عليه السلام ورؤوس الشهداء. هذا الموكب الذي كان يضمّ هؤلاء الأعزّاء والمقدّسين كان يسير من بلدة إلى بلدة ومن صحراء إلى صحراء ومن تلّة إلى تلّة يُعرَض أمام الأقوام والقبائل والعشائر وسكّان المدن والبلدات في ظروف قاسية وصعبة، مقيّدين بالسلاسل والقيود وكلمات الشَّتم والسَّب والشَّماتة. والمؤلم أكثر أنّ الناس الذين اهتدوا بجدّ هؤلاء وبدين وتضحيات جدّ هؤلاء كان يتم إخراجهم في كل مدينة وبلدة ليقيموا الأفراح ويطلقوا الزغاريد احتفاءً بانتصار السلطة القاتلة التي قتلت حفيد رسول الله صلى الله عليه وآله وبقيّة أبناء المهاجرين والأنصار في يوم العاشر من محرم سنة 61 للهجرة.
* هدف السُّلطة
عندما أرادت السُّلطة لهذا الموكب أن يمشي كلّ هذه المسافة الطويلة كانت تريد أن تحقّق مجموعة من الأهداف، منها:
1ـ إبراز الغلبة والقهر والاقتدار، وهذا ما أشارت إليه زينب عليها السلام في خطبتها في قصر يزيد في دمشق.
2ـ إبراز الشَّماتة وروحيَّة الثّأر وتجديد ما جرى في (معركة) بدر إذ قالوا: "يوماً بيوم بدر"، ليقولوا للتاريخ وللأمّة إنّ ما جرى في كربلاء هو ردٌّ على محمدٍ وصحابة محمدٍ الذين قاتلوا وانتصروا في بدر على قريش وطواغيت قريش، وإذلال آل رسول الله صلى الله عليه وآله، والمسُّ بإرادتهم وبإيمانهم وبوعد الله بأن ينصر أولياءه الصالحين.
3ـ ومن جملة الأهداف, إحباط هذه الأمّة وتهديد كلِّ من يفكّر في القيام بالثَّورة والانتفاضة والوقوف في وجه الطاغية، فليس في الأمة (سنة 61 للهجرة) أعزّ من الحسين وأعظم من الحسين في وجدانها وها هي السلطة تقتله وتجوب برأسه ورؤوس أصحابه كل البلاد وتسبي نساءه حتى بنات النبي صلى الله عليه وآله. إذاً، كان المطلوب من هذا الموكب ترهيب وإحباط كلّ من يفكّر في أن ينطق بالحق في وجه سلطان جائر أو ينتفض ويجاهد، ولذلك أُريد له أن يجول في العراق وفي بلاد الشام، وهاتان المنطقتان كانتا الأكثر أهمية وحساسية وقدرة على تحديد خيارات الأمّة والخلافة والمستقبل السياسي.
* ويمكرون ويمكر الله
لكن هذا القرار السُّلطوي الأموي كان مكراً من يزيد. وفي المقابل كان الله تعالى هو الذي يرعى دينه ويكفل أنبياءه، ويدافع عن أوليائه، ويحفظ رسالته ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: 30). هذا الموكب، موكب السَّبايا الذي أُريد له أن يحقّق هذه الأهداف، كان الجزء المكمِّل الذي حقّق أهداف شهادة الحسين عليه السلام ودماء الحسين وصرخة الحسين عليه السلام يوم العاشر من محرم في كربلاء. فلو أن يزيد وابن زياد حملا (الإمام) زين العابدين وزينب والنساء والأيتام والرؤوس وذهبوا بهم سرّاً إلى المدينة وتركوهم في المدينة ومنعوهم من الخروج منها، هل كان سيصل صوت الحسين ودماء الحسين وكلمة الحسين ومظلومية الحسين إلى الأجيال؟ وهل كانت ستصل إلينا كل هذه القيم والمفاهيم والوقائع والعظمة التي كرّستها كربلاء؟ ولكن هذا المكر أراد شيئاً وأراد الله شيئاً آخر. صحيح أنَّ في (السَّبي) معاناة وآلاماً وأحزاناً لزين العابدين والنّساء والسّبايا، ولكن هذا طريق الله وهذا هو طريق التَّحدي وطريق التضحيات وهذا طريق بذْل الدّماء والدّموع وهذا طريق الأولياء طوال التاريخ. هذا الموكب الذي خرج من كربلاء إلى الكوفة اجتمع بالناس الذين احتشدوا للاحتفاء بنصر يزيد وتحوّل إلى مجلس عزاء كبير جدّاً أبكت فيه زينب وسُكَيْنَة وفاطمة كلَّ عين وكلَّ قلب، وقالت لهم الحقيقة، وعلى طول الدرب من الكوفة إلى نصِّيبين إلى حلب إلى حماة إلى حمص إلى بعلبك إلى دمشق، كان الخطاب حاضراً. كان تشريح الوقائع والحقائق حاضراً وقوياً حتى في الحالات التي حيل فيها بين زينب وبين الكلام والخطابة كان يكفي المشهد المأساوي: الرؤوس، والأيتام، والنساء الثكالى، والإمام المقيَّد بالسلاسل. لقد كانت الناس تقترب وتسأل عن هويَّة السّبايا والأيتام فيجابون بأنهم بنات وأيتام محمد نبيّ هذه الأمة. كان هذا الواقع كافياً لقلب الأمور رأساً على عقِب. وكثير من المدن والقرى والبلدات التي استقبلت موكب السَّبايا بالأفراح قلبت أفراحها إلى أحزان عندما علمت أنّ هؤلاء ليسوا خوارج وليسوا من الديْلم، بل هم أحفاد وأيتام محمد صلى الله عليه وآله. لقد كانت الأمة كلّها تقرأ في كتاب الله ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23). صحيح أنّ المسلمين قد يختلفون في مسألة الإمامة والخلافة والولاية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكنَّهم لا يختلفون في مودَّتهم لقربى رسول الله ومحبّتهم لأهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله.
* موكب استنهاض الأمّة
هذا الموكب في الحقيقة استطاع أن يبيّن الأمور، أن يستنهض الأمَّة وأن يكسر حواجز الخوف، أن يحمل معه دم الحسين إلى كلّ أرض، إلى كلّ قلب وإلى كلّ عقل. لقد حمل هذا الموكب معه نور الهداية وشجاعة الثّورة ومنطق القيام ورفض الذلّ والظّلم. إنَّ الذي حمل إلينا بعد مئات السنين هذا الشِّعار الذي نردّده ونواجه به كل طواغيت العالم عندما يريدون إذلالنا "هيهات منّا الذّلة"، هم هؤلاء السَّبايا وهؤلاء الأيتام الذين كانوا في ظاهر الأمر أسرى وسجناء، ولكنهم كانوا في حقيقة الأمر الأحرار الحقيقيين في هذه الأمة. ولذلك نجد أنه سرعان ما تحرَّكت الثَّورات في الكوفة وفي العراق وفي أكثر من بلد إسلامي، فكانت ثورة التوَّابين والمختار وزيد بن علي عليه السلام وآخرين. حتى ثورة بني العباس لم تكن في البداية معروفة بأنها ثورة لبني العباس، لأنها كانت تحمل راية "ثارات الحسين" وكانت تخدع الأمة بأنها ستسلم السلطة لمن يرتضيه آل محمد. وباسم الحسين قامت الثورة الكبرى التي جرفت ملك بني أميَّة بعد سنوات قليلة وهذا ما كان ليكون لولا كربلاء وما جرى فيها وما كان ليكون لولا الجزء المكمِّل وهو هذا الموكب العظيم والكبير والتَّاريخي.
* نور الهداية المحمدي
نستطيع أن نقدّر مدى تأثير وتأثُّر الناس بهذا الموكب العظيم عندما نتابع ما جرى بعد دخول هذا الموكب إلى دمشق التي كانت في قبضة يزيد والذي كان يسيطر عليها ثقافياً وإعلامياً ونفسياً ومع ذلك فإن أهلها تفاعلوا مع الحدث وتأثروا به، وذلك من خلال شاهدين:
الشاهد الأول، عندما خطب علي بن الحسين عليه السلام رغم معارضة يزيد وبنتيجة إصرار الحاضرين؛ أُذن له عليه السلام بأن يرتقي المنبر، فقام علي بن الحسين عليه السلام وخطب، فحمد الله وأثنى عليه، ثم يقول المؤرخون خطب خطبة أبكى منها العيون، جرى ذلك في دمشق وفي المسجد الأموي كلُّ من كان "بكى لما جرى في كربلاء وبكى لما جرى على الحسين عليه السلام في محضر القاتل" ومما قال عليه السلام: "أيّها الناس، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصّفا"، يعني ابن محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله. أنا لست من التّرك ولا من الدّيلم، أنا لست من الخوارج، أنا ابن نبيّكم وابن رسولكم وابن هاديكم وابن سيّدكم، وهذه النساء هنَّ عماتي وأخواتي وبنات رسول الله صلى الله عليه وآله. إلى أن يكمل عليه السلام: أنا ابن، أنا ابن، أنا ابن، ويقول ما جرى من أحداث. هنا، عندما يتحدث الإمام زين العابدين عليه السلام هو لا يريد أن يفتخر على الناس بنفسه، هو يريد أن يعرّف لهم نفسه، أن يعرّف لهم حقيقة هذه المجموعة التي قُتلت وسُبيت وأهينت وجيء بها على مدى 2000 كيلو متر.
* زينب كالجبل الصلب
وكذلك الشاهد الآخر من زينب عليها السلام وأيضاً في قصر يزيد. وفي كلا هذين الشَّاهدين نجد العزّ، الإرادة، التوكُّل، الثّقة واليقين بوعد الله سبحانه وتعالى، الإحساس بالعزة رغم القيود والسلاسل والعذابات والآلام. تصوّروا امرأة سيدة شاهدت ما شاهدت في كربلاء ومشت كل هذه المسافة الطويلة ورأس أخيها ورؤوس إخوانها وأبناء عماتها وأبناء إخوتها أمام عينيها في الليل وفي النهار وعلى طول الطريق. كيف يمكن أن يكون حالها؟ والمرأة بطبيعة الخلقة مجبولة على العاطفة وعلى الحنان، ومع ذلك قامت كالجبل الصلب في مجلس يزيد عندما شاهدته ينكت بعصاه ثغر أبي عبد الله الحسين عليه السلام. لم تتحمل هذا المنظر، فقامت وخطبت وحولها الجلاوزة والحراب والسيوف التي يمكن أن تقطّعها إرباً إربا لكنّها لم تخف ولم تخشَ. لقد استطاع هذا الدّم الزَّكيُّ أن يستنهض الأمة كلها بمسلميها ومسيحييها، في بلاد الشام، مع موكب السبايا ومع رأس أبي عبد الله الحسين عليه السلام حتى في مجلس يزيد نفسه وذلك عندما وقف مسيحي في المجلس وقال ليزيد: "أنا من نسل فلان من حواريي السيد المسيح عليه السلام وبيني وبين أبي، يعني جده الأكبر الذي هو من الحواريين، مئات السنين، ومع ذلك ما زال الناس يتبرَّكون بي، وهذا ابن بنت نبيّكم وما زال عهدكم بنبيّكم طرياً تقتلونه وتقطعون رأسه وتسبون نساءه" فأُخِذ وقُتل. هذا الموكب هو الذي في الحقيقة هزّ التاريخ. هذا الموكب هو صوت الدّم، ولذلك نحن نقف في يوم الأربعين لنُحيّي زينب وصرخة زينب وزين العابدين عليه السلام.
(*) النص الكامل لكلمة سماحة السيد حسن نصر الله حفظه الله في إحياء مراسم أربعين الإمام الحسين عليه السلام في بعلبك 25/ 1/ 2011.