د. حيدر خير الدين
عندما وصل موكب السبي إلى المدينة المنوّرة لم يجدْ بشر بن جذلم وكان شاعراً سوى
هذه الأبيات لكي ينعى الإمام الحسين عليه السلام بقوله:
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها
قُتِل الحسين فأدمعي مدرارُ
الجسم منه بكربلا مضرّج
والرأس منه على القناة يُدار
أي طِيفَ برأس الإمام وأهل بيته في الأمصار والأجناد(1)،
من كربلاء ابتداءاً حتى الشام في رحلة عذاب ومشقّةٍ وآلام يعجز اللسان عن وصفها،
والقلم عن الكتابة حولها حقاً، ذلك لطول المسافة ووعورة الطريق وقسوة اللّئام وقيود
الظلاّم وسياط الحاقدين والإجهاد في السير الحثيث.
ولعلِّي لست أوّل من يرصد طريق
السبايا إلى الشام ولكنني من الذين يحققون تاريخياً في رسم الطريق الذي سلكوه إلى
دمشق وفي أسماء البلدان والمدن التي عبروا خلالها؛ إذ أن أرباب المقاتل لم يطنبوا
في تأريخ السبي إلا ضمن إشارات بسيطة تكاد لا تكفي الباحث والمحقّق، وبالتالي فإن
الجديد في هذا البحث هو اكتشاف معطياتٍ علمية مؤكدة لتساؤلات كثيرة كانت الإجابة
عنها تُعدُّ من ضروب التخمين والاحتمال، لاسيّما مع تقادم الزمن وتبدّل الأحوال،
حيث نجد مدناً سادت ثم بادت وأخرى انقطعت أخبارها أو تبدّلت أسماؤها.
كل ذلك يجعل
تحديد المسير على الخارطة الحديثة أمراً صعباً في الحقيقة، ولكنه وارد على أصله ما
دامت هناك شواهد تاريخية وأثرية موجودة على طول الطريق من آثار حسينية، فالطريق من
الكوفة إلى الشام بشكل مستقيم غير ممكنة وكذلك المرور في بادية الشام الصحراوية
لجهة دمشق أو صحراء السماوة لجهة كربلاء، وإن العودة إلى المدينة ومنها إلى دمشق
عبر تبوك ومعان والثنية والصنمين في الأردن في ذلك اليوم عسيرة جداً وذلك لبعد
المسافة أولاً، وللخوف من ردّة فعل أهل المدينة، ولأن الطريق الأقرب إليها هي عبر
الموصل نصيبين. لذلك صدر الأمر بالترحيل عبر طريق الفرات الغربي الوافر بالكلأ
والعامر بالخانات، وكان هذا الطريق بالأصل يطلق عليه طريق "البريد" لأمنه وعمارته
بالقرى والدساكر التي تؤمن الزاد والعلف وهذا ما كانت تتطلّبه الأسفار حينذاك،
لاسيّما وأن عديد الجند الأموي كان ألف فارس وفي رواية أخرى ألفاً وخمسماية، وكان
في موكب السبايا ثمانية وسبعين رأساً يتقدّمهم رأس الإمام الحسين عليه السلام
مرفوعة على القنا، وثلاثون امرأة وفتاة من أخواته عليهم السلام وزوجات أبيه،
ومواليه وجواريه وصبيانهم جميعاً، فكانت القادسية أوّل المنازل التي مرّوا بها بعد
خروجهم من الكوفة ثم وصلوا بمحاذاة تكريت عند قصر هبيرة خوفاً من انتفاضة القبائل،
وبعدها جدّو في المسير حتى دخلوا إلى دير عروة ثم صليتا، وادي نخلة، ثم لينا(2)،
والكحيل ومنها إلى الموصل التي اجتمع فيها أكثر من أربعين ألفاً من الأوس والخزرج
لمقاتلة القوم فعكفوا عنها.
وقيل قديماً أن بلدان الدنيا العظام ثلاثة نيسابور لأنها باب الشرق، ودمشق لأنها
باب الغرب، والموصل لأن القاصد إلى الجهتين قلّ ألاّ يمر بها، وسمّيت بالموصل لأنها
وصلت بين دجلة والفرات. وبعد الموصل عبروا تل عفر وهي تقع على طريق صحراوية هي غاية
في الاستواء وبها حجارة كثيرة بحيث لا تستطيع الدواب أن تخطو خطوة واحدة من غير أن
تعثر بحجر تحت حوافرها، ومنها إلى مشارف جبل سنجار بعدما قطعوا الفرات، وهو يقع
شمال شرق سوريا، ويجتازه نهر الخابور وعنده قلعة حصينة مقامة لحماية الجزء الشمالي
الشرقي للطريق المؤدي إلى نصيبين التي تبعد عنها مسافة ثلاثة أيام وهي طريق مكشوفة
تتكون من سهل خصب محصور بين سلاسل جبلية، وهذه الطرق تعد من أهم الطرق العسكرية
والتجارية قديماً وحديثاً لكونها تربط العراق بجناحي الهلال الخصيب. وفي نصيبين(3)
عبر الموكب عين الورد، ثم دعوات حتى وصلوا إلى قنّسرين وهي مدينة كانت عامرة وكان
الجند ينزلها في ابتداء الإسلام، ولم يكن لحلب معها ذكر، وكانت قنّسرين من أجناد
الشام ثم ضعفت بقوة حلب وهي الآن قرية صغيرة وتحتها يصب نهر "قويق" في المطخ وربوة
قنّسرين مشرفة عليها لهذا لم يأتِ المؤرخون على ذكر سقط المحسن بن الحسين عليه
السلام في جبل جوشن في حلب لكونها كانت تابعة لخراج قنسرين.
ومنها سلك الموكب إلى
أن وصلوا إلى كفرطاب وهي اليوم مندثرة وموقعها الحالي يقع في الشمال الغربي من خان
شيخون على بضعة كيلومترات، وهي كانت على الطريق بين المعرّة وشيزر، وبنهاية هذا
الموقع تنتهي حدود قضاء المعرّة من ولاية حلب وتبدأ حدود قضاء حماة(4)، وقد تابع
الموكب عبر سيبور حتى وصلوا "حماة"، وإن الطريق الحالية اليوم هي عبر سهول العلا
الشاسعة العارية من كل شجرة ونضرة حتى نصل إلى حوران، طيبة العلا، القمحانة، ثم من
غربي قرون حماة، وقرون حماه هما جبلان متقاربان من الحجر الجيري الأسود ويبعدان عن
المدينة إلى الشمال عشرة كيلومترات يدعى الكبير منهما زين العابدين وارتفاعه 645م،
والصغير كفر راع 631م وفي شرقي الأوّل ضيعة الهاشمية نسبة إلى الفاطميات الهاشميات
اللواتي استرحن فيها أثناء السبي، فيما صعد الإمام زين العابدين عليه السلام إلى
أعلا الجبل ليتهجّد طوال ليله هناك، لذلك دُعي من حينها ب مقام زين العابدين عليه
السلام وكان قد رممّه الأشرف قايتباي عام 883هـ.
ومن قرون حماة وصل الموكب إلى شيزر عبر طريق أساسي كانت تسلكه أكثر القوافل
والحجافل القادمة من شمالي الشام أو جنوبيها وذلك لتسلّطها على وادي العاصي، لهذا
كانت تعد مفتاح بلاد الشام لمكانتها المهمة لكونها سوقاً للجيش والتجّار وهي تقع
اليوم قرب المعرّة وتعدّ من جند حمص والعاصي يمر من شرقها، ومنها عبر سهول فسيحة(5)
وصلوا إلى جسر الرستن وهو جسر عظيم مبني على نهر العاصي ومنه في برية مقفرة وصلوا
إلى حمص، من هنا دخلوا المدينة (حمص) من باب الرستن أي من جهة بلدة الرستن، وفي حمص
انتفض أهلها وقتلوا من الأمويين ستة وعشرين فارساً وساروا عبر تل النبي ... باتجاه
رأس بعلبك. لأن الطريق بين حمص ودمشق وعرة وبرية وعطشة وغير آمنة لوجود السابلة(6)
فيها وكان العرب قديماً يقولون عنها لا سيّما عبر "قارة والنبك" وهما يقعان على
طريق حمص ودمشق "بين قارةَ والنبكِ بنات الملوك تبكي"؛ لهذا سلكوا الطريق الخصبة
عبر سهل البقاع بمحاذاة الأقنية والينابيع والأنهار حتى وصلوا إلى مشارف بعلبك.
عبر
حوش تل صفية وقد سمّي كذلك لوجود مقام ينسب إلى حادثة السبي فيها ثم إلى بعلبك عند
مرجة رأس العين وقد ظن البعلبكّيون أن السبايا من الروم أو الديلم فاستقبلوهم
بالأهازيج لكن لما علموا حقيقة الأمر انتفضوا عليهم وعند خروجهم من الباب الغربي
كانت وفاة السيدة خولة بنت الحسين عليه السلام هناك، ومن بعلبك صعوداً باتجاه
الجنوب الشرقي عبر الطيبة، بريتال، حتى حورتعلا وفيها مقام ينسب لأحد أبناء الإمام
الحسين عليه السلام المعروف باسم عبد اللَّه، دون أن يدري أحد كونه الأوسط أو
الأصغر أو غير ذلك، ومقابل حورتعلا في الجهة الغربية الجنوبية تقع بلدة قصرنبا،
وفيها يشاع أن سُكَيْنَة بنت الحسين عليه السلام قد نامت تحت شجرة في خراجها ونسيها
القوم، وكان قد عدل بهم الطريق قبل وصولهم إلى دمشق، وفي بلدة الخريبة يقدِّس
الأهالي (حقلة)(7) أهل البيت لنزولهم فيها عند "خانوق عبادي" ويقولون أن السبايا
تعبّدوا في ذلك المكان أثناء مرور الركب في طريقهم إلى الشام، ومن الخريبة شرقاً
باتجاه حام، معربون، سرغايا والزبداني، ومنها وصلوا إلى دمشق الشام وذلك في مسيرة
دامت عشرون يوماً من كربلاء.
(1) جمع جند، وهي معسكرات جنود الإسلام أيام الفتوحات
التي تحولت فيما بعد إلى مدن.
(2) وفي لينا قام أهلها جميعاً بطرد الجند الأموي وتوبيخهم على قتل الإمام الحسين
عليه السلام وعلى سبي نسائه.
(3) قتل الجند الأموي إبراهيم الموصلي الذي لامهم على قتل الحسين عليه السلام وعلى
سبي نسائه.
(4) وفيها أغلق أهلها الأبواب وجعلوا يرمون الفجرة بالحجارة.
(5) وفي شيزر القلعة المحصنة أبى حماتها أن يفتحوا لهم أبواب قلعتهم لا بل رموهم
بالحجارة والسهام، فتركوها وجدّوا في المسير...
(6) السابلة، أي المارة ويقصد هنا قطّاع الطرق.
(7) حقلة: لهجة عامية مؤنث حقل.