د. حيدر خير الدين
"إن لقتل الحسين عليه السلام حرارة في قلوب المؤمنين لا
تبرد أبداً"، وكيف تبرد هذه الحرارة ما دام استشهاده عليه السلام مدرسة عالمية
تتجدد فيها التضحيات وتحيا بظلالها القيم والمكارم التي بعث من أجلها رسول اللَّه
صلى الله عليه وآله، والباحث في ثورة كربلاء وما جرى قبلها وما جرى بعدها يستدرك
اليوم أبعاد هذه الثورة المجيدة للإنسانية برمتها، التي جعلت غاندي يتعلّم من
دروسها: "كيف يكون مظلوماً فينتصر" وكيف تعتمد عليها ثورة الإمام الخميني المقدس "إن
كل ما لدينا هو من عاشوراء" وكيف يستلهم المقاومون معانيها لطرد المحتلين الصهاينة،
كل ذلك كان من وهج هذه الحرارة الحسينية، والمتتبّع تاريخياً لصدى هذه الثورة
يستعلم بوضوح أن قتلة الإمام الحسين عليه السلام ماتوا قبل أن يقتلوه وأن نهجهم
وسياساتهم كانت تبور بالرغم من تزييف الحقائق وتزوير التاريخ وطمس الواقع وقد صدق
الشاعر بقوله:
كلما مرّ عليه الزمان تجدد |
كذب الموت فالحسين مخلّد |
وإذا كنا نستحضر العذابات التي حلّت بحرم الإمام الحسين عليه السلام وعياله
أثناء السبي من كربلاء إلى الشام بعد العاشر من محرم، نستذكر أيضاً المواقف المشرفة
والتضحيات البطولية لمحبي أهل البيت عليهم السلام في معظم المنازل والأمصار التي
نزلوا بها، ولعل الإتيان بها جميعاً في هذه العجالة أمر شاق جداً لأن معظم وقائعها
مجهولة لدى الكثيرين، وهذه الانتفاضات العفوية التي كانت تحدث في معظم المدن
التي دخلوها بالرغم من سياسة التضليل التي اتبعها الأمويون جعلتهم يحاولون تجنّب
الإحتكاك بالناس مطلقاً مع أن السياسة الأموية لقتل الإمام الحسين عليه السلام كانت
تقضي بالتشهير به في المناطق والأمصار ولم يتم لهم ذلك إلا في دمشق لكونها عاصمة
الحكم الأموي آنذاك، لكن مجريات الحوادث على طول الطريق وما حصل من ثورات متفرقة
جعل الموكب يقتصر على الزاد والعلف من المدن كافة. كانت أول المواجهات في مسجد
الكوفة عندما صعد عبيد اللَّه بن زياد المنبر وأثنى على يزيد وذمّ الحسين عليه
السلام، فقام إليه عبد اللَّه بن عفيف الأزدي وكان ضريراً لأن إحدى عينيه ذهبت يوم
الجمل والأخرى يوم صفين واعترض على ابن زياد في كلامه وفضحه وفضح الطاغي يزيد بن
معاوية فاستشاط ابن زياد غضباً وأمر بقتله، فلما أحاط به الجند، علمت قبيلة الأزد
بذلك فهبت ومنعت الجند من الوصول إليه عندها جمع ابن زياد قبائل مضر وضمهم إلى محمد
بن الأشعث وأمرهم بقتال القوم، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى قُتل بينهم جماعة كبيرة
ووصل أصحاب ابن زياد إلى دار عبد اللَّه بن عفيف فكسروا الباب واقتحموا عليه وهناك
كانت ابنته تخبره عن حركة المهاجمين فقاتلهم حتى لم يقدر عليه أحد وهو يقول:
ضاق عليكم موردي ومصدري |
أقسم لو يفسح لي عن بصري |
واستمر القتال إلى أن أخذوه غدراً إلى ابن زياد وهناك أسرّ عبد اللَّه بن عفيف
أمراً طالما كان يقلقه، ومما قال: اعلم يا بن زياد أنه لما ذهبت عيني يوم الجمل
يومها كنت قد سألت اللَّه الشهادة فلم أوفق إلا بعين واحدة، ولما جاء يوم صفين قلعت
عيني اليسرى فلما كف بصري يئست من الشهادة والآن أحمد اللَّه الذي رزقنيها بعد
اليأس منها وعرَّفني الإجابة منه في قديم دعائي، ثم قتله ابن زياد. بعد ذلك نجد
الموقف البطولي لأهالي بلدة "لينا" الواقعة في منطقة واسط العراقية حيث كانت عامرة
بالناس إذ خرج الكهول والشبان والمخدرات لينظروا رأس الحسين ويصلوا عليه وعلى جده
وأبيه ويلعنوا من قتله، إلى درجة أنهم قطعوا الطريق على الجند الأموي قائلين لهم
ارتحلوا عن بلادنا وأخرجوا منها يا قتلة أولاد الأنبياء. والمواجهة الثانية كانت في
"عسقلان" التي اختلف العلماء في تحديد موقعها سواء على الساحل الفلسطيني أم أنها
مدينة سادت ثم بادت، وفيها انتفض زرير الخزاعي بوجه شمر اللعين وحاول تخليص الإمام
زين العابدين والسبايا منه إلا أن الجند تكاثروا عليه وأثخنوه جراحاً حتى ظنوا أنه
مات فتركوه ملقى على قفاه لا يتحرك، ولعل تسمية بلدة الزريرية في جبل عامل نسبة له
أكثر من القول حول زرارة بن الأعين أحد أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه السلام. ولما
علم أهل الموصل بمجيء الموكب إلى بلدهم اجتمع حوالي أربعون ألفاً من نسل الأوس
والخزرج وأجمعوا أن يقاتلوا الجند ويحرروا السبايا ويدفنوا الرأس عندهم فيكون لهم
فخراً إلى يوم القيامة، إلا أن والي المدينة أسرّ بذلك إلى الشمر ونصحه بعدم الدخول
إلى المدينة وبأنه سيوافيه بالعلف والزاد في خارجها وهكذا حصل، كذلك الأمر حصل في
"قنَّسرين"(1) إذ عمد أهلها إلى إغلاق أبواب مدينتهم وجعلوا يلعنونهم ويرشقونهم
بالحجارة، فنزلوا في خراجها، أما أهل "كفرطاب" فإنهم منعوا عن الجند الأموي الماء
بقولهم "واللَّه لا نسقيكم قطرة واحدة وأنتم منعتم الحسين عليه السلام وأصحابه
الماء فرحلوا عنها، فيما عمد أهالي مدينة "سيبور" إلى قطع القنطرة التي يُعبر من
خلالها ثم أغاروا على جند ابن زياد وقاتلوهم قتالاً شديداً وقتل من الجانبين رجالاً
كثيراً حتى ارتحلوا عنها ولم يدخلوها، وفي "حماه" أغلقت الأبواب أيضاً ومنعوا عنهم
الزاد والطعام، ولمّا أحس الجند الأموي بالضغط يتزايد عليهم بعدما عبروا عين الورد
وقنسرين وحماه أرسل خولي الأزدي ومن كان معه من حملة الرؤوس إلى والي حلب يستنجده
وكان أن سمع بذلك عبد اللَّه بن عمر الأنصاري، فأخذ يندب الحسين عليه السلام
ويبكيه، وكانت عنده بنت اسمها "درّة الصدف" تأثرت كثيراً لما رأته على هذه الحالة
فقالت له ما بك يا أبتاه لا كبى بك الدهر ولا نزل بقومك القهر أخبرني عن حالك فقال
لها يا بنية إن أهل الشقاق والنفاق قتلوا حسيناً وسبوا حريمه والقوم سائرون بهم إلى
يزيد وانتحب باكياً وقال:
وبليت بالأرزاء والأشجان |
قلّ العزاء وفاضت العينان |
حرم الرسول بسائر البلدان |
قتلوا الحسين وسيروا لنسائه |
قسراً يعلى فوق رأس سنان |
سلبوا العِمامة والقميص ورأسه |
فقالت "درّة الصدف" لا خير في الحياة بعد قتل الهداة فواللَّه لأجهدن في خلاص الرأس
والأسارى وأخذ الرأس ودفنه عندي في داري وأفتخر به على أهل الأرض إن ساعدني الإمكان
فخرجت "درّة الصدف" وهي تنادي في ربوع حلب وأطرافها "قتل يا ويلكم الإسلام" ثم أنها
دخلت منزلها ولبست درعاً وتأزرت بالسواد وخرجت معها من بنات الأنصار وقبيلة حمير
سبعون فتاة بالدروع والمفاخر فتقدمتهن فتاة يقال لها نائلة بنت بكير بن سعد
الأنصاري وسرن من ليلتهن، فكمنت "درّة الصدف" للجند الأموي وسمعت بكاء النسوة
والصبيان، وبالتالي عكفت عن المواجهة لكثرة الأعداء، واستحسنت الاستنجاد ببعض
القبائل ولما شارف الجند الأموي إلى مقربة من حلب، وكانت "درة الصدف" تجول في
البادية حتى وصلت إلى قبيلة بني دوئل(2) وشاهدت رعيانهم يبكون ولما سألت عن السبب
قالوا لما قتل الحسين عليه السلام بكربلاء ووصل خبرنا إلى يزيد فهو يطلبنا ونحن
ننتقل من مكان إلى مكان، وسيدنا أبو الأسود الدؤلي، فلما سمعت درة الصدف بذلك
سرّت وقالت: سادة كرام وليوث عظام، وما إن أشرفت هي ومن معها على سواد القبيلة حتى
أحاطت بهن النساء يبكين الحسين عليه السلام ودرة تصيح بهم: هل من مجير وهل من نصير،
هذا رأس الحسين عليه السلام يهدى إلى يزيد، إلى أن وصل أبو الأسود الدؤلي، فأخبرته
الخبر وطلبت منه المعونة فأطرق متنكراً فقالت له أظنك دخلت في بيعة يزيد، فانتفض
أبو الأسود نفضة كادت تنفصل منها عظامه وهو يقول:
أزال اللَّه ملك بني زيادِ |
أقول وذلك من ألم ووجدِ |
كما بعدت ثمود قوم عادِ |
وأبعدهم كما بعدوا وخانوا |
فقالت له إذا كان فعلك موافقاً لقولك فخذ في أهبتك واخرج معي فإما الظفر فنفوز بما
طلبناه وإما غيره فنلحق بالسادة الهداة، عندها نادى أبو الأسود في قومه وبني عمه
فأجابوه شاكين السلاح حتى تكامل عنده سبع مائة فارس وراجل ومن جملتهم مائة جارية
وانضم إليهم أيضاً حنظلة بن جندلة الخزاعي بسبع مائة فارس أيضاً فاجتمعوا على رأي
واحدٍ، فتقدمت درة الصدف وقالت باللَّه عليكم اجعلوني مفتاح الحرب وكونوا من ورائي
سنداً قالوا تقدمي ينصرك اللَّه فحملت في قومها حتى إذا قابلتهم صممت الحملة على
محمد بن الأشعث فطعنته في خاصرته وكان حامل رأس العباس فمال الرأس من يده فاستقبلته
ولم تدعه يصل إلى الأرض فأخذته ووضعته على صخرة ثم عطفت على النسوان تخلصهم فأحاطوا
بها، فطعنت شكّار ابن عم محمد بن الأشعث في صدره وأخرجت السنان من ظهره فانجدل
صريعاً ثم عطفت على مراد بن شداد المذحجي بطعنة أخرجت بها قلبه ولم تزل كذلك حتى
قتلت أحد عشر رجلاً فصاحت بعشيرتها فأجابوها وحملت الرجال على الرجال حتى استخلصت
"درة الصدف" وأبو الأسود وحنظلة الرؤوس منهم إلى أن جاءت نجدة والي حلب وكانوا أكثر
من ستة آلاف فارس فأحاطوا بهم جميعاً واقتتلوا قتالاً عظيماً حتى قتلت درة الصدف
وتفرق جيشها واستعادوا منها الرؤوس والنسوان.
ثم ساروا بهن إلى أن وصلوا "حماة" وكان أهلها قد أغلقوا الأبواب في وجوههم وصعدوا
على السور وقالوا واللَّه لا تدخلون بلدنا هذا ولو قتلنا عن أخرنا، فتركوا حماة
ووصلوا إلى حمص وهناك قتل من الجند الأموي ستة وعشرون فارساً عند الباب الرئيسي،
فتحولوا عنها وجدوا بالمسير إلى أن وصلوا إلى بلدة الرأس البقاعية وهناك نزلوا
بإزاء دير قديم، وفزعاً من اللحاق بهم عمدوا إلى التحصن بالدير، وهناك استوهب
الديراني الرأس المبارك وأسلم بين يدي أبي عبد اللَّه لما رأى عنده من اللطائف
الإلهية وأسلم معه أيضاً سبعون رجلاً، حيث ضجّوا بالعويل والبكاء ورموا العمائم من
على رؤوسهم وشقوا ثيابهم وجاؤوا إلى سيدنا زين العابدين عليه السلام وقد قطعوا
الزناد وكسروا الناقوس واجتنبوا فعل اليهود والنصارى وأسلموا على يديه وقالوا بأن
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أمرنا أن نخرج إلى هؤلاء الكفار ونقاتلهم ونجلي
صداء قلوبنا بهم ونأخذ بثأر سيدنا الحسين فقال لهم الإمام عليه السلام لا تفعلوا
ذلك فإنهم عن قريب ينتقم اللَّه منهم ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فهام الديراني على
وجهه وسكن مغارة الزرقاء(3) عند نبع نهر العاصي فسميت به تيمناً. أما الجند الأموي
فإنهم باتوا في الدير خائفين مذعورين حتى الصباح إذ غادروه على عجلٍ إلى بعلبك
بعدما أرسلوا إلى صاحبها بأن يلقاهم بالزاد والعلف ويخبروه أمر الحسين عليه السلام
وما كان من شأنه، فخرج أهلها بالدفوف والأعلام وكانت حينذاك أموية النهج يزيدية
التوجّه، واستقر الركب عند مرجة رأس العين وهناك خطبت السيدة زينب بالجموع خطبة
ألهبت مشاعرهم فهبوا جميعهم لاستنقاذ الرؤوس والتحموا بالجند، لكنهم فشلوا في تحقيق
ذلك وسقط منهم العديد من الرجال، وتخليداً لهذه الحادثة عمدوا إلى بناء مسجدٍ سمّوه
مسجد رأس الحسين عليه السلام.
(1) قرية سورية، كانت على طريق القوافل بين حلب
وانطاكية.
(2) قبيلة موالية لأهل البيت.
(3) اسمها الآن مغارة الراهب.