السيد صادق الموسوي
حينَ يكشفُ الغيب عن حقائق عالم الملك التي قد تخفى على السائرين في عالم المادة، وحين يعرضُ كلام الكمال وكمال الكلام عن مفرداتٍ ومعانٍ لا يدركها إلا أولو الألباب والأبصار يصبح لزاماً على المؤمنين أن يسلّموا لتلك الحقائق والمعاني القرآنيّة.
ومن الحقائق المهمّة استعمال القرآن الكريم لمصطلح الحياة والموت في غير ما تعارف الناس عليه. فالعرف يرى في الحياة ذلكَ المعنى المادي الذي يطلق على الجسد وتظهر بدقّات القلب وحركة الدم والتنفس ويرى في الموت فقدانها. أما القرآن الكريم، فيُطلق الحياة والموت على تلك الحالة المعنويّة التي يعيشها الإنسان في سرّه، وعلى تلك الصلة المقدّسة التي تجمع الفقير بالغنيّ، والعاجز بالقادر، والمحتاج بالمقتدر، والضعيف بالقوي، والناقص بالأكمل، على تلك المشاعر والعواطف والأحاسيس التي تنطلق من أعظم مخلوق وهو القلب.
*القلب في بعده المعنويّ
القلب، مصدر الحياة الظاهريّة في عالم المادة وأساس الحياة الواقعية في عالم المعنى، إذا اختلّ بعده المعنوي، يصبح مَن فقده في نظر القرآن الكريم:
﴿أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (النحل: 21).
نعم نحن لا نشعر بموتهم لأننا نظن أنّ الحياةَ هي الحياة المادية فقط. وإذا مات القلب الممتد إلى عالم الملكوت، فسيؤثّر على الجوارح فتصبح العيون فاقدة للنظر ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا﴾ (الأعراف: 179)
و﴿
وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ (الأعراف: 198) وتصبح الآذان فاقدة للسمع
﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ (الأنفال: 21).
هذه الحالة قد تُصيب المؤمنين بالله تعالى، حيث تَبقى دائرة العقيدة في ميدان العقل والعادة ولا تترشح ذراتها وشذراتها إلى عالم القلب، فيفقد المؤمن حلاوة الإيمان ولذة العبادة، ويتجافى عن حالة الشعور والانفعال والاطمئنان والسعادة، ذلك لأنّ جمودَ القلب حجَبَ الإنسان عن وصال الحق.
*قلوب سقيمة
إنّ أخطرَ المواقف التي قد يعيشها المؤمن هو تلك الحالة التي تجفّ فيها الدموع ولا تطمئن القلوب ولا يختلج القلب عند قراءة كلام الله. ويشتدُّ خطرُ هذا الموقف حين لا يشعرُ الإنسان بخطورة مرضه وتأزّم حالته فلا تنفعه بعد ذلك شفاعة الشافعين.
يستعرض القرآن الكريم أنواعاً من القلوب السقيمة، فهناك قلبٌ مقفل
﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: 24) وقلبٌ غليظ ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ (آل عمران: 159) وقلبٌ لاهٍ
﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ (الأنبياء: 3)
وقلب قاسٍ ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم﴾ (الزمر: 22)
وقلبٌ مطبوع ﴿طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (محمد: 16) وقلبٌ مختوم
﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ﴾ (البقرة: 7) وقلبٌ زائغ
﴿أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ (الصف: 5)
تجمعها حالة المرض ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ (المدثر: 31). هذا التعدّد في حالة القلب تفرضه الحالة التي يعيشها الإنسان من ناحية قبول دعوة الحقّ والاستجابة لصوت الشريعة والالتزام بها.
*عوارض مرض القلب
إنّ الالتفات إلى أنّ مرض القلب هو أقسى ما يمكن أن يصيب الإنسان في كلّ حياته يفرض على المؤمنين التنبّه الدائم والتوقّي من كلّ ما قد يؤدي للوقوع بهذا المرض. ومن العوامل والمنبّهات التي تعرض على الإنسان إيذاناً وكشفاً لوقوع المرض ما يلي:
1 - عدم الخشوع: الخشوع هو التذلُّل والانكسار الذي يصيب القلب1، ويتجلّى بأبهى صوَره في الصلاة حيث يشعر المصلّي بضعفه ونقصه وفقره وحاجته لله، فإذا توالَت حالة الإمساك عن الخشوع كان ذلك عارضاً منبّهاً.
2 - جفاف الدموع: حين تسمعُ الأذن العِبرة ولا تفيضُ العين بالعَبرة رغم خطر المصاب وعِظَم الفاجعة، سواء حين يُذكر الله تعالى أم حين يُذكر الموت والعذاب والبلاء، فإنّ هذا الإمساك عن الدموع من عوارض المرض أو الموت. يقول الإمام علي عليه السلام: "ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب"2.
3 - جمود القلب: عندما يُذكر الله تعالى وصفاته أو حتى أنبياؤه وأولياؤه أو رحمته وغضبه لا يتفاعل القلب ويتحرّك، بل قد يضطرب وينقبض ويشمئز، فهذه علامة على الحالة المأساوية التي قد تُصيب قلب المؤمن.
4 - الانشغال بالأمور المادية: التي تسبب بُعداً عن الله ونسياناً لذكره وتفكيراً دائماً بالدنيا التي تصبح همّ الإنسان وغمّه في صباحه ومسائه.
*الأسباب التي تُميت القلب
إنّ أصعب عقوبات الله تعالى قسوة القلب. يقول الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ لله عقوبات في القلوب والأبدان... وما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب"3.
1 - الذنوب: الخطايا والآثام ومخالفة الشرع وحكم الله هي أحد أهمّ أسباب موت القلب، يقول الإمام الباقر عليه السلام: "ما من شيء أفسدُ للقلب من خطيئة، إنّ القلب ليواقِع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله"4.
2 - آمرية النفس بالسوء: حين يُسيطر جنود الشيطان على جنود الرحمان في مملكة الإنسان الباطنية تصبح النفس الإنسانية موضعاً للأمراض التي تلوِّث القلب وتقوده إلى الهلاك. لذلك وردَ في الروايات أنّ سيطرة الشهوات والغلّ والمراء والتكبُّر والعُجب وغيرها من الأمراض القلبية هي الوسائل للقضاء على القلب الرحماني عند الإنسان.
3 - حبّ الدنيا: ميدان القلب ساحةٌ ينبتُ فيها الشوك أو الورود، ومنزلٌ يُضيء بنور ذكر الله أو يُظلم بما دونه، وتزداد حجب الوصول إلى الله تعالى. في رواية للإمام الكاظم عليه السلام يروي أنّ الله تعالى أوحى إلى النبي داوود عليه السلام: "يَا داود حذّر وأنذر أصحابك عن حبّ الشهوات، فإنّ المعلّقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبة عني"5.
*إحياء القلب
إنّ قسوة القلب مرضٌ كباقي الأمراض، بلّ هو أخطرها، لذلك يجب التوجُّه الدائم إلى الله تعالى والاستعانة به ليبرأ القلب مما وقع فيه. لقد كانَت مهمّة إحياء القلوب هي إحدى الغايات السامية للأنبياء العظام، ويمكن القول: إنّ إحياء المسيح عليه السلام لقلوب بني إسرائيل الضالّة أكثر أهميةً من إحيائه لأجسادهم المهترئة. يقول الإمام السجّاد عليه السلام بلسان العباد: إلهي إليكَ أشكُو قلبَاً قاسيَاً معَ الوسواسِ متقلِّباً وبالرَّين والطبْع متلبِّساً 6، فلا بُدّ للإنسان أن يركّز انتباهه على إصلاح القلب، ويجعل مبتغاه إكماله، حتى ينال منتهى السعادة الروحانيّة والمراتب العالية الغيبيّة. وقد وردَت روايات متعددة في كيفية إصلاح القلب وعمارته وطريقة إحيائه وجلائه7، ولكن يمكن اختصار ذلك في:
1 - الموعظة: الموعظة هي التذكير بالخير فيما يرقّ له القلب، وقد تكون داخلية من خلال حركة الفكر الذاتية والتنبيه الشخصي الداخلي في سرّ الإنسان، وقد تكون خارجية من خلال الاعتبار بأحداث جرَت مع الماضين وتجري مع الحاضرين أو من خلال الاستماع للمواعظ الأخلاقية.
والموعظة هي المياه التي تجري على الأرض فتظهر نضارة جنانها من جديد، وقد جعلها أمير المؤمنين الوسيلة الأساسيّة لحياة قلب الإنسان حينما وصّى ولده الإمام الحسن عليه السلام: "أحيِ قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة"8... والموعظة تقود الإنسان إلى التفكر الدائم بحال الدنيا الزائلة والتذكّر المستمر للخطر الدائم عليه وهو الموت، فيهدم اللذات ويرقّ القلب ليحيا من جديد.
2 - المعرفة والعلم: يقول الإمام علي عليه السلام في دعاء كميل: "وعلى ضمائر حوَت من العلم بك حتى صارت خاشعة"، فحين يزداد وعاء العلم عند الإنسان حكمةً ومعرفة سيكون طريقاً ممهَّداً لخشوع القلب ورقتّه وإحيائه من جديد. وردَ في روايات الشارع المقدَس الحثّ على تذاكر العلم ومجالسة العلماء. ففي وصيّة لقمان لولده: "يا بُني جالِس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإنّ الله عزّ وجل يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء"9.
3 - ذكر الله تعالى: الذكر المطلوب هو ذلك الذكر القلبي حيث ينشغل القلب بالتسبيح والتهليل والحمد والشكر لله تعالى. لكن يمكن للذكر اللساني أن يكون طريقاً للذكر القلبي. فبعدَ أن يزيل الإنسان العوامل التي تحجب القلب وتميته، يفتح للقلب طريقاً لمصدر الكمال: "إلهي أَنِرْ أبصارَ قلوبِنا بضياءِ نظرِها إلَيك"10، فأصل ُ صلاحِ القلب اشتغالُه بذكر الله تعالى.
والقرآن الكريم هو أرفع ذكر وأحسنُ طريق يمكن أن يجلو القلب وينشر في ظلامته نوراً، يقول الأمير عليه السلام: "إنّ اللهَ سبحانه لم يعِظ أحداً بمثل هذا القرآن... وما للقلب جلاءٌ غيره"11.
4 - التوبة: وهي الطريق الأول للإحياء، حين يندم على ما فات من الذنب، ويعزم على عدم العود، فيفتح الباب أمام حياة القلب، يقول الإمام السجاد عليه السلام: "وأماتَ قلبي عظيمُ جنايتي فأحيِهِ بتوبةً منكَ يا أمَلي وبُغيتي"12.
5 - اتّباع الإنسان الكامل: يشكِّل الإنسان الكامِل مظهراً لجميع الصفات والأسماء، والهادي على الصراط والدال إلى الله تعالى والمُعين الدائم للإنسان في إخراجه من سجن الأنا والذات إلى رحاب العبوديّة والطاعة، سواء كان ظاهراً بشخصه أم حاضراً في نائبه وحجّته. هذا الاتباع والاقتداء والتأسّي يُحافظ على صفاء القلوب من وساوس الشياطين والإنيّة والأنانيّة 13 ليعمّرها من جديد.
إلهي فاجعَلنا مِنَ الذينَ توشّحَت أشجارُ الشَّوقِ إليكَ في حدائقِ صُدورِهم... وانتفَت مخالجة الشكِّ عن قلوبِهم وسرائرِهم وانشرحَت بتحقيق المعرفة صدورُهم.
يقول الإمام علي عليه السلام:"ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب".
1- الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج1 ص152.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج93 ص285.
3- تحف العقول، ابن البحراني، ص296.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج2 ص268.
5- تحف العقول، م.س، ص297.
6- الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين عليه السلام، مناجاة الشاكين، ص209.
7- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، ص577.
8- نهج البلاغة، الإمام علي عليه السلام في وصيته للإمام الحسن عليه السلام.
9- بحار الأنوار، م.س، ج1 ص204.
10- مفاتيح الجنان، المناجاة الشعبانية.
11- نهج البلاغة، الخطبة 176.
12- الصحيفة السجادية، مناجاة التائبين، ص401.
13- الأربعون حديثاً، م.س، ص582.