الشيخ محمود عبد الجليل
تَعتبر الآيات والروايات القلبَ -بما يشكّل عنواناً رئيساً للإحساس الباطنيّ- كاشفاً
عن الهُويّة المعنويّة للإنسان. وبقدر ما يتفاعل القلب مع الواقع الذي يحيا فيه
يتحقّق التكامل المعنويّ للإنسان. ومن هنا، تحدّثت الشريعة عن أهميّة لين القلب
ورقَّته، وعن خطورة قسوته وغلظته. وهذا ما سنتعرّض إليه في هذا المقال.
* معنى القسوة
قسوة القلب هي حالة من الشدّة والغلظة والصلابة تؤدِّي إلى الجمود العاطفيّ، وفقدان
التفاعل مع حدث أو موقف معيّن، بحيث يفقد الشعور بالعاطفة والاهتمام والحبّ والشفقة
والرحمة لمن يجب لهم ذلك. وقد عبّر عنها الشيخ النراقي بأنّها "مَلَكة عدم التأثّر
عن تألُّم أبناء النوع"(1).
* القسوة: مرضٌ نفسيّ
تعتبر قسوة القلب من جملة الأمراض النفسيّة والذنوب القلبيّة التي يجب علاجها. كما
أنّها سببٌ للوقوع في أمراض وذنوب كبيرة وخطيرة، كالظلم وقطيعة الرحم وعقوق
الوالدين وحرمان الفقير والمسكين حقّهما وعدم رعاية حقّ اليتيم وسببٌ في انحراف
الإنسان عن صراط العبوديّة المستقيم في أقواله وأفعاله.
* ويلٌ للقاسية قلوبُهم
ويكفي في التحذير منها والتنبيه إلى خطرها، وصف الله تعالى لها في آياته بقوله:
﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ
فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ﴾ (الزمر: 22)، حيث جعل الله شرح الصدر -الذي يستلزم قبول الحقّ-
مقابلاً لقسوة القلب التي تستلزم عدم قبول الحقّ. ثمّ ذكر تعالى في الآية اللّاحقة
اللّين ورقّة القلب، وهي المقابل الحقيقيّ للقسوة، فقال:
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ (الزمر: 23)(2).
ويقول الله سبحانه في آية أخرى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ
الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: 74)،
واصفاً قلوب بني إسرائيل بأنّها أشدّ قسوة من الصخر الصلد، لا هي تقبل الحقّ، ولا
هي ذات حياة معنويّة وكمال عقليّ، ولا تفور من داخلها عواطف الخير، ولا تجد النصيحة
والحكمة والعبرة من آذانها وعيونها سبيلاً إلى ضميرها ووجدانها الجافّ والميت، ولا
تحني رأسها أمام العظمة والقدرة والآيات المحسوسة، مع أنّ صخور الجبال الشامخة
تسّاقط أمام قدرة الله وقهر آياته(3).
* القسوة: أعظمُ عقوبة
أمّا الروايات فيكفينا ما جاء فيها من أنّها:
1- تُولِّد البعد عن الله تعالى: عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "وإنّ
أبعد الناس من الله القلب القاسي"(4).
2- من علامات النفاق: عن الإمام الصادق عليه السلام: "أربع من علامات النفاق:
قساوة القلب، وجمود العين..."(5).
3- مانعة من استجابة الدعاء: عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله عزَّ وجلَّ
لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ قاسٍ"(6).
4- أعظم عقوبة للإنسان: عن الإمام الباقر عليه السلام: "... وما ضُرب عبدٌ
بعقوبة أعظم من قساوة القلب"(7). وما يعنينا هنا، هو معرفة أسباب القسوة
وكيفيّة علاجها.
* مورّثات قسوة القلب
قسوة القلب من الأمراض الاكتسابيّة التي يمكن للإنسان -مع الإخلاص والجهد والمثابرة-
التخلّص منها.
ومن هذه الأسباب:
1- كثرة الذنوب والمعاصي: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ما جفّت الدموع إلّا
لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب"(8).
2- الكلام بغير ذكره تعالى: في الحديث القدسيّ: "إنّ ترك ذكري يقسّي القلب"(9).
3- طول الأمل: فيما ناجى الله تعالى نبيَّه موسى عليه السلام: "يا موسى، لا
تطوِّل في الدنيا أملك فيقسو قلبك، والقاسي القلب منّي بعيد"(10).
4- همّ الدنيا: عن الإمام عليّ عليه السلام: "تفرّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم،
فإنّه من كانت الدنيا همّه قسا قلبه، وكان فقره بين عينيه"(11).
5- استماع الغناء: في وصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام: "ثلاثة
يقسين القلب: استماع اللهو، وطلب الصيد، وإتيان باب السلطان"(12).
6- الغفلة: عن الإمام الباقر عليه السلام في وصيّته لجابر الجعفيّ: "إيّاك
والغفلة، ففيها تكون قساوة القلوب".
7- كثرة النوم والشرب والأكل: قال تعالى: ﴿وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف:
31).
8- كثرة المال: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ كثرة المال مفسدة للدين
مقساة للقلب"(13).
9- النظر إلى البخيل: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "النظر إلى البخيل يقسّي
القلب"(14).
10- طرح التراب على ذوي الرحم: عن الإمام الصادق عليه السلام: "أنهاكم أن تطرحوا
التراب على ذوي الأرحام، فإنّ ذلك يورث القسوة في القلب، ومن قسا قلبه بعُد عن ربّه"(15).
11- عمل الجزارة (القصّاب): عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الجزّار تُسلب
منه الرحمة"(16).
* علاج القسوة
وعلى النقيض تماماً من القسوة تأتي الرقَّة. وهي حالة تجعل الإنسان ينفعل بسرعة عند
مواجهة العوامل المثيرة للأحاسيس والمشاعر، فيلين قلبه ويتفاعل عاطفياً مع المواقف
التي تتطلّب هذه الحالة. ومن أجل علاج القسوة وتحصيل الرقَّة لا بدَّ من العمل على
عكس الأمور التي تولِّد القسوة. وقد نبّهت الشريعة الإسلاميّة إلى آداب وسلوكيّات
عدّة يمكن أن تشكِّل علاجاً لمرض القسوة، منها:
1- التفكّر في آثار القسوة.
2- ذكر الله تعالى في كلّ حال: يقول تعالى: ﴿فَلَوْلَا
إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام: 43). ومن أهمّ أنواع
الذكر قراءة القرآن، فعن عبد الله بن سليمان، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن قول الله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا﴾،
قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: تبيّنه تبياناً... لا تَهُذَّه هذَّ الشعر،
ولا تنثره نثر الرمل، ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة"(17).
3- كثرة ذكر الله في الخلوات: عن الإمام الباقر عليه السلام في وصيّته لجابر الجعفيّ:
"وتعرّض لرقَّة القلب بكثرة الذكر في الخلوات"(18).
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "بالذكر الحقيقيّ تُخرق الحجب بين العبد والحقّ
تعالى، وتزال موانع الحضور، وقسوة القلب وغفلته، وتفتح في وجه السالك أبواب الملكوت
الأعلى والألطاف والرحمة الإلهيّة"(19). ومنه الدعاء والإلحاح على الله تعالى في أن
يهبنا رقَّة في القلب.
4- تذكُّر الموت: عن الإمام الصادق عليه السلام: "ذكر الموت يميت الشهوات، ويقطع
منابت الغفلة، ويقوّي القلب بمواعد الله، ويرقّ الطبع..."(20).
5- الاستفادة من مجالس الوعظ والإرشاد: يقول تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي
الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
(يونس: 57).
6- المسح على رأس اليتيم: عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من أنكر
منكم قساوة قلبه فليدنِ يتيماً فيلاطفه، وليمسح رأسه، يلِن قلبه بإذن الله عزَّ وجلَّ،
فإنّ لليتيم حقّاً"(21).
7- إطعام المسكين: شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قساوة قلبه، فقال
صلى الله عليه وآله وسلم له: "إذا أردت أن يلين قلبُك فأطعم المسكين وامسح رأس
اليتيم"(22).
8- أكل العدس: عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "شكا نبيٌّ من
الأنبياء إلى الله عزَّ وجلَّ قساوة قلوب قومه، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه وهو في
مصلَّاه: أنْ مُر قومك أن يأكلوا العدس، فإنّه يرقّ القلب ويدمع العين"(23).
9- أكل التين: عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحبّ أن يرقّ قلبه
فليدمن من أكل البلس، وهو التين"(24).
10- عيادة المريض: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "بياض القلب في أربع
خصال: في عيادة المريض، واتّباع الجنائز، وشراء أكفان الموتى، ودفع القرض"(25).
11- تعويد النفس على الرحمة والتراحم: فالإنسان إذا رحم إنساناً -وبالأخصّ الوالدين
والأولاد ومن يلي شأنهم- حصلت عنده رقّة. فإذا توالت تلك الرحمة فإنّها تصير
كالملكة.
12- التوجُّه إلى مظاهر الرحمة الإلهيّة: خصوصاً الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله
وسلم الذي جاء وصفه بـ"نبيّ الرحمة" في كتاب الله تعالى، وأهل بيته صلوات الله
وسلامه عليهم أجمعين.
وعلى أيّ حال، فإنّ على مَن يريد إزالة القسوة من قلبه، اجتناب ما يبعده عن الله
تعالى، من الذنوب والمعاصي، والتي هي من أشدّ موجبات قسوة القلب، وأن يتوجّه إلى
الله تبارك وتعالى، ويتقرّب إليه بالأعمال الصالحة، وأن يسكب الدموع خوفاً منه
وحبّاً له. ولا شكّ في أنّ الدموع هي أبلغ تعبير عن حالة الانفعال العاطفي الباطنيّ
ولها أثرها الواضح في رقّة القلب ورحابة الروح، وفي مقابله جمود العين التي هي إحدى
علامات القلب القاسي المتحجّر.
1- جامع السعادات، النراقي، ج1، ص370.
2- جنود العقل والجهل، الإمام الخمينيّ، ص220- 221.
3- مستفاد من القلب السليم للشهيد السيد دستغيب.
4- بحار الأنوار، المجلسيّ، ج68، ص281.
5- (م.ن)، ج69، ص176.
6- الكافي، الكلينيّ، ج2، ص474.
7- بحار الأنوار، (م.س)، ج75، ص176.
8- (م.ن)، ج67، ص 55.
9- عدّة الداعي، ابن فهد الحلّيّ، ص239.
10- الكافي، (م.س)، ج2، ص329.
11- إرشاد القلوب، الديلميّ، ص63.
12- الخصال، الصدوق، ص126.
13- مستدرك الوسائل، الميرزا النوريّ، ج 12، ص94.
14- تحف العقول، الحرّانيّ، ص214.
15- ميزان الحكمة، الريشهريّ، ج6، ص2612.
19- الكافي، (م.س)، ج5، ص113.
20- (م.ن)، ج2، ص614.
21- بحار الأنوار، (م.س)، ج75، ص162.
22- جنود العقل والجهل، (م.س)، ص123-124.
23- مصباح الشريعة (المنسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام)، ص171.
24- ثواب الأعمال، الصدوق، ص200.
25- ميزان الحكمة، (م.س)، ج3، ص2615.
26- مكارم الأخلاق، الطبرسيّ، ص187.
27- بحار الأنوار، (م.س)، ج 66، ص187.
28- (م.ن)، ج8، ص 144.