الشيخ علي ذو علم
"لا ترى الجاهل إلا مُفْرطاً أو مُفَرِّطاً"(1)
العقل عند الإمام علي عليه السلام هو معيار وعلامة التّعالي والكمال الإنساني، والقوّة التي يميّز الإنسان من خلالها الحق من الباطل، والتي تدفع الإنسان لسلوك طريق الطاعة والسّعادة. كما أنّه وسيلة تعديل وتنظيم الغرائز والميول، بحيث يتم من خلاله توجيهها إلى مسارها الصحيح؛ أي في الحركة نحو الحياة الأبدية والحقيقية للإنسان. والعقل هو محور ومنشأ إيمان الإنسان بالله تعالى، وهو القوة التي تدفعه للسّعي والاجتهاد في طريق الجنة والسعادة الأبدية. لكن ما يجب الالتفات إليه هنا أنَّ المقصود من العقل في هذا التعريف ليس مجرد العقل الجزئي الذي يقوم بالوظائف المادية الصرفة المتعلّقة بالمنافع والمضارّ الحيوانية، إذ إنّ هناك اختلافاً أساساً بين العقل الجزئي والعقل طبق رؤية الوحي.
* الجهل أساس الكفر
يقابل العقل بالمعنى الذي ذكرنا الجهل. فالجهل هو انعدام العلم والعدول عن الطّريق المستقيم والانحراف عن طريق الإنسانيّة والسعادة الأبديّة. والإمام علي عليه السلام يصف الجاهل بأنّه هو الذي أخرج العقل من ساحة تدبيره وأعماله، وجعل القوى الحيوانية هي الأصل، فأصبح سلوكه تابعاً لأهوائه وشهواته. إذاً، الجهل أساس الكفر والإلحاد ومنشأ الفساد. وعندما كان أئمة الهدى عليهم السلام يتحدّثون عن العقل والجهل لم يقصدوا البعد العلمي والمعرفي للإنسان، بل كانوا يريدون الإشارة إلى البعد المتمثّل بالحكمة العمليّة والنظريّة التي توجّه الإنسان باتجاه النور أو الظُّلمة، الجنّة أو الجحيم، وبالتالي السعادة أو الشقاء.
* علامات الجاهل
يوضح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه أهمّ خصوصيّات وعلامات الجاهل، فيقول عليه السلام: "لا ترى الجاهل إلا مُفْرطاً أو مُفَرِّطاً"، أي إما صاحب إفراط أو تفريط. والإفراط هو الزيادة أكثر عن الحدود اللازمة، أمّا التفريط فهو الإهمال وعدم الاهتمام، وعدم الاطلاع على قيمة الشيء وموقعه. والجاهل في كلتا الحالتين يخرج عن حدود الاعتدال والعدالة. أما العاقل فهو الذي يعطي كل شيء حقّه بعيداً عن الإفراط والتفريط. ولو عدنا إلى تعاليم القرآن الكريم وأحاديث أهل البيت عليهم السلام لوجدنا مقداراً كبيراً من النّهي عن الإفراط في المسائل المادية والحياة الدنيويّة، وكذلك عن التفريط وعدم الاهتمام بالأمور الحياتية. فكما جاء النّهي عن البخل، كذلك جاء النهي عن الإفراط الشديد في الإنفاق والتدبّر في صرف الأموال، وكذلك الأمر بالنسبة للشقّ العبادي، فإن كان لا يُستحسن إظهار جميع العبادات والأعمال الحسنة، كذلك لا يفترض إخفاء جميع الأعمال.
* لا إفراط ولا تفريط
وقد اختصت أمة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بالقياس إلى أمم الأنبياء السابقين بأنها "أمة وسط" على أساس أنها تعتمد طريق الاعتدال والوسطية بعيداً عن الإفراط والتفريط. ولا يقصد من الوسطية التسليم والاستسلام لأعداء اللَّه، بل المقصود هو الاعتدال والابتعاد عن التطرف وعدم الاهتمام. أما الابتعاد عن الإفراط والتفريط فلا يقتصر على التكاليف والوظائف الدينية، بل يتعدى ذلك إلى الأمور العرفية والعادية في الحياة الشخصية، فاعتماده في المسائل الاجتماعية والسياسية يدلّ على البلوغ والنمو في كلا الجانبين، على أساس أن الإفراط في متابعة الأمور والاقتصار على جانب من حاجات المجتمع سيكون على حساب الالتفات إلى الجوانب الحياتية الأخرى، ويؤدي في النهاية إلى التفريط في الأمور.
(1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج 4، ص 16، حكمة رقم 70.