الشهيد السيّد مصطفى الخمينيّ قدس سره
إنّ مقتضى النعم الإلهيّة أن تجيب إلى طاعة الله وعبادته. فاعلم أيّها الأخ الكريم والقارئ العزيز، أنّ النعم الإلهيّة المتناهية نوعاً وصنفاً، وغير المتناهية شخصاً، التي استولت عليك من الجوانب شتّى، ومن النواحي والضواحي المختلفة، والعنايات الربّانيّة التي شملتك -في جهات كثيرة: معنويّة وماديّة، روحيّة وجسمانيّة- تقتضي أن تقوم لله وفي الله، وأن تجيب إلى طاعته وعبادته بعدم إبطال تلك النّعم، وبعدم الانحراف عنها. فعليك، يا أيّها المحبوب المكرّم، أن لا تغترّ بما في هذه الصحف من الإنعامات الغيبيّة، فإنّها مفاهيم قالبيّة، وما دام العبد لا يخرج من تلك المعاني التخيّليّة إلى الحقائق الغيبيّة، لا يصير كاملاً ولا يعدّ عبداً.
* التحلّي والتخلّي
فعليك بتهذيب النفس من جميع الرذائل والشرور، والتحلّي بحلية الفضائل والخيرات، وبمحاسن الأخلاق الكريمة، وعليك بالمجاهدة بترك لذّات الدنيا مهما أمكن، وملازمة أهل الخير والتقوى في كلّ مكان ميسّر لك، فإنّ من أشرف الأمور وألذّ الأشياء عند أهل السداد والعرفان، المسافرة في مختلف البلاد لدرك أصحاب القلوب والقرآن، وقد كان دأب السّلف وديدن الخلف على هذه الطريقة المثلى، وتلك الرويّة العليا.
* التدبّر بآيات الله
اعلم، يا أخي ويا قرّة عيني: أنّ على المسافر إلى الله بعين الحقيقة للتعيّن بالأسماء والصفات، أن يلاحظ الآيات بعين التدبّر والتفكّر، ويقرأها على قلبه في نهاية الدّقة والتأمّل حتّى يتوجّه إلى مقاصد الكتاب، ويهتدي بهداه.
وأنّ الأخذ في تبويب المسائل العلميّة، والشروع في ترتيب البحوث الفنيّة، ربّما يكون من الأعمال الشيطانيّة ومن القوى النفسانيّة، الراجعة إلى الدنيا وكدورتها وإلى الطبيعة وباطنها، فيصير السالك فيها والمغامر في بحورها هالكاً وباقياً في العمى، ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى﴾ (الإسراء: 72)، فلا تغترّ بما في هذه الوريقات من الدقائق العلميّة والحقائق العرفانيّة، بل تدبّر في الكتاب الإلهيّ حتّى تصير مظهراً له ومصاحبه، وتتجلّى فيك صفاته وخصوصيّاته، حتّى تنجو من المهالك الآتية، والعقبات التي تنتظرك من قريب، وإن تظنّها -نعوذ بالله- بعيدة.
* التفكّر والإيمان بالغيب
وتفكّر في آياته، وانظر كيف يهديك في نهاية اللطف، وكيف يقوم بهدايتك في غاية الإعزاز والتكريم، فيقول في صورة الأدب ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: 3)؛ أي هم إذا استشعروا بالغيب يتوجّهون إلى لزوم الإيمان به، من غير احتياجهم إلى الأمر فيؤمنون بالغيب، ويهذّبون ذواتهم وفطرتهم المخمورة بالإيمان بالغيب، وبعقد القلب على تركيز الغيب في قلوبهم، ثمّ يقومون لترسيخ ذلك بإقامة الصّلاة والأعمال البدنيّة، وتهذيب البدن ومزاجه الطبيعي بالصّلاة، التي هي الحركات المعتدلة المناسبة للمحافظة على مزاجه وعلى صحّته.
* الإنفاق والاجتماع
ثمّ بعد الفراغ من التهذيبين -التهذيب الروحانيّ القلبيّ والتهذيب المادّيّ البدنيّ- يشرع في تهذيب غيره بإنفاق ما عنده، فإنّ رحى الاجتماع تدور عليهم، ومسؤوليّة عائلة البشر متوجّهة إلى هؤلاء السالكين المهذّبين، فعليهم تنظيم الأمور بمقدار الميسور، فينفقون ما عندهم حتّى يتمكّنوا من أن يعيشوا في ظلّ ذلك الإنفاق والإعطاء. فالأمر بالإنفاق من الأمور الحياتيّة ومن المصالح الاجتماعيّة، التي بمراعاتها تبقى الحياة الفرديّة، ويحصل التهذيب الفردانيّ، ويتمكّن الإنسان من القيام بالعيش الوحدانيّ، فما ترى من العمومات والإطلاقات المختصّة بهذه الكريمة -أي بقوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (البقرة: 3)- ليس إلّا لأجل أهميّة الإنفاق في أساس الاجتماع. وإنّا إذا راجعنا وجداننا نجد أنّ الزكاة لا تختصّ بالأموال، كما تومئ إليه الأخبار والآثار، بل لكلّ شيء زكاة، فلا بدّ من صرفه وإيصاله إلى محالّه، حتّى يبقى أصل الحياة وأساس التنميات. فهذه الآية الكريمة الشريفة تدعوك إلى رفض رذيلة البخل، وتناديك إلى الاتّصاف بصفة السخاوة، والإعطاء في كلّ جانب من الجوانب الممكنة، فرُبّ عالِمٍ يبخل في تعليم الناس، ورُبّ سالكٍ يبخل في هداية المتّقين، ورُبّ تاجرٍ يبخل في إخراج حقّ الفقراء... إنّ ذلك المنع والامتناع يرجعان إلى منع أنفسهم من الاستمتاعات المعنويّة، وحرمان نفوسهم من اللذائذ الماديّة والمعنويّة.
* تحقيق الحكومة الإسلاميّة
يا أيّها العزيز، ويا أخا الحقيقة، ويا رفيقي الأعلى وشقيقي في الله: إذا قيل لكم: ﴿لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ﴾ (البقرة: 11)، وفي هذه النشأة، فانتهوا وامتثلوا أوامر مولاكم ونواهيه، ولا تفسدوا فيها بارتكاب المحرّمات والمعاصي وترك الواجبات، ولا تُخلّوا في أركان سياسة المنزل والبلاد إلى سياسة الملك والمملكة الإسلاميّة والإنسانيّة، ولا تكونوا من المفسدين في الأراضي، فلا تتجاوزوا في أرض بدنكم وأرض الله تعالى إلى محارمه وحدوده، فتكونوا من الهالكين. فعليك الإصلاح حتّى تعدّ من المصلحين، وتسمّى بالمصلح الكبير على وجه الحقيقة والأحقّيّة، دون الدعوى والمجاز ومجرّد التسويل والخيال، كما ترونها اليوم بالنسبة إلى رجالات السياسة، فإنّهم اقتنعوا بذلك، فسرقوا ألقابهم، وهم مفسدون في الأرض، ولكن لا يشعرون بأنّ الشعب والمِلل يعلمون فسادهم في جميع الزوايا والأقطار، وفي كافّة الأمصار والأعصار. فالمصلح الكبير الذي تشهد بمصلحيّته الأمّة الإسلاميّة، هو القائم بالوظائف الفرديّة والاجتماعيّة، والسياسات المدنيّة، وغيرها، وهو الذي ينهض لتنجيز الآمال والطموحات، وتحقيق الحكومة الإسلاميّة والمدنيّة الإلهيّة الفاضلة، حتّى تكون هذه النّشأة بجميع شؤونها مرآة كاملة للنظام الربّانيّ. فأحسن الأنظمة القابلة للاعتماد عليها، والكافلة لسعادات البشر وغيره، بأنواعها الدنيويّة والأخرويّة، هي المنظّمة والحكومة التي تكون انعكاساً عن الحكومة الإلهيّة التكوينيّة.
(*) مقتبس من تفسير القرآن الكريم للعلّامة المحقّق آية الله الشهيد السيّد مصطفى الخمينيّ قدس سره.