الشيخ أكرم دياب
اهتمّ الإسلام بالحياة الإنسانيّة في أبعادها المختلفة، فكما أنّه أعطى حيّزاً مهمّاً للأبعاد الفرديّة المتعلّقة بالحبل المتّصل بين العبد وربّه، فإنّه لم يهمل الأبعاد المتّصلة بحياته الاجتماعيّة وبمن حوله، معتبراً إيّاها من أعظم الطرق المقرّبة إلى الله تعالى. ولو تدبّرنا قليلاً ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الخلق كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله عزّ وجلّ أنفعهم لعياله"(1)، لما أحجمنا عن بذل الغالي والنفيس في سبيل خدمة الناس والانتفاع في الآخرة بتوسّط نفعهم.
* خدمة الناس: أعظم الصدقات
لا شكّ في أنّ البذل وتقديم المنفعة والصدقة للناس لها مراتب أشارت إليها الروايات الكثيرة، وأدناها ردّ السلام على الناس. وتوجد مراتب أخرى تفوق في أشكالها أنواع التصدّق والبذل كافّة، فبذل النفس مثلاً في سبيل خدمة الناس، يمثّل قمّة أنواع البذل في سبيل الله، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: "فوق كلّ ذي برّ برّ، حتّى يُقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتل في سبيل الله فليس فوقه برّ"(2). ولا شكّ في أنّ البرّ هو منفعة يقدّمها المجاهد في سبيل الله خدمة لعباد الله المؤمنين في الذَود عنهم، والدفاع عن كراماتهم وأعراضهم، فأيّ صدقة أعظم من هذه الصدقة؟!
* الذود عن المستضعفين
لو تدبّرنا الآية الكريمة: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ (النساء: 75)، حيث أتبع قوله تعالى في سبيل الله بالمستضعفين، لعلمنا أنّ القتال في سبيل المستضعفين هو من أهمّ مصاديق القتال في سبيل الله؛ لأنّ الذَود عن المستضعفين وتحقيق الأمن لمختلف الشرائح المستضعفة في مجتمع الإيمان هما من أهمّ غايات تشريع الجهاد.
ولعلّ ما قامت به المقاومة الإسلاميّة في لبنان في مواجهاتها مع أعدائها، خصوصاً العدوّ الإسرائيليّ والعدوّ التكفيريّ، خير دليل على ما ذكرنا، إذ إنّها استطاعت أن تؤمّن للمستضعفين الأمان، وأن ترفع الظلم عنهم، عابرةً الطوائف والمذاهب وأشكال الاختلاف كلّها، فبذلت الغالي والنفيس خدمة لهم في سبيل الله.
* الإيمان والجهاد
يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ (الأنفال: 74)، ويقول الإمام الخامنئي دام ظله: "من وجهة نظر الإسلام، الإيمان المجرّد عن العمل هو الحدّ الأقلّ للإيمان، أمّا الإيمان الكامل والحقيقيّ فهو ذلك المصحوب بالجهاد في ميادين العمل". فالمؤمن الحقيقيّ هو الذي يزاوج بين الإيمان وبين الجهاد والهجرة والنصرة، وبهذا يمكن تمييز الشخص التعبويّ. وممّا لا شكّ فيه أنّ الإيواء والنصرة هما من أهمّ مصاديق الخدمة الاجتماعيّة، ويُعدّان من أهمّ مظاهر العمل التعبويّ والتطوّعيّ.
* المبادرة الفرديّة
ولهذا، يُعتبر الجهاد الذي ينطلق من روح المبادرة الفرديّة بمثابة أعظم الصدقات، بحيث يبذل الإنسان جهده، ويتحمّل شتّى أنواع العذابات والمشقّات في سبيل خدمة الله والمستضعفين دون أيّ مقابل. وهو ما شاهدناه مراراً وتكراراً في أكثر من ساحة من ساحات المواجهة، حيث تحوّلت إلى ميدان من ميادين التضحية والإيثار وبذل الأموال والأنفس دون أيّ منفعة ذاتيّة، سوى طلب رضى الله تعالى، وهذه الصورة هي التي قد نعبّر عنها بالثقافة التطوّعيّة.
* العطاء نعمة
إنّ ما ذكرناه قد يضيء على سرّ من أسرار روح الاستمرار في العطاء، وعدم الانكفاء في أيّ مبادرة اجتماعيّة تنطلق من روحٍ جهاديّة، بحسب مفهوم الإمام القائد الخامنئيّ دام ظله . ولعلّه إلى ذلك أشارت بعض الأحاديث الشريفة، كالتي وردت عن الإمام علي عليه السلام: "إنّ لله تعالى عباداً يختصهم بالنِّعم لمنافع العباد، فيقرّها في أيديهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، ثم حوّلها إلى غيرهم"(3). فإذاً، هي خاصيّة يمتاز بها الباذلون ما داموا في بذلهم، ويُحرم منها العباد عند الامتناع منها.
* قضاء الحوائج
التأكيد الوارد عن أئمّتنا عليهم السلام على قضاء حوائج المؤمنين، وجعله في موازاة بذل النفس، مرجعه إلى أنّ كِلا الأمرين ينطلق من روح واحدة هي المبادرة للبذل في سبيل الله، فعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام لِعَبْدِ اللهِّ بْنِ جُنْدَبٍ: "يا ابْنَ جُنْدَبٍ، الْمَاشِي فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَالسَّاعِي بَينَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَاضِي حَاجَتِهِ كَالْمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اللهِّ يوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَمَا عَذَّبَ اللهُّ أُمَّةً إِلَّا عِنْدَ اسْتِهَانَتِهِمْ بِحُقُوقِ فُقَرَاءِ إِخْوَانِهِمْ"(4).
* الحماس الثوريّ
ولكن ممّا لا بدّ من تأكيده هو أنّ أيّ تقدّم، كما أنّه مرهون بالاستمرار في الجهاد والبذل، كذلك هو مقرون بالاندفاع الناشىء من الشوق والعزيمة الباعثَين للنشاط والبهجة، لا الكسل والانزواء والتقاعس؛ لأنّ المؤسّسات لن تكون مؤسّسات ثوريّة -وكما عبّر الإمام الخامنئيّ دام ظله في بعض كلماته- إلّا إذا تميّزت بالحركة، وبالحماس الثوريّ، وتمتّعت بالسرعة، وبالحسّ الجهاديّ.
* خدمة الناس: ميدان تنافس
من هنا، نجد أنّ العلماء الأعلام، وعبر مرّ العصور والأزمان، تنافسوا في تقديم يد المساعدة من خلال إنشاء المؤسّسات والتكتّلات التي قد تساهم في رفع بعض الحرمان عن المستضعفين، وساهموا مساهمةً كبيرةً وعظيمةً في بناء الصروح الاجتماعيّة والتعليميّة، وبادروا لأعمال الخير التي كان محورها مساعدة المحتاجين وإعانة المظلوم، انطلاقاً من قول إمامنا الصادق عليه السلام: "والذي بعث بالحقّ محمّداً بشيراً ونذيراً، لَقَضاء حاجة امرئٍ مسلم، وتنفيس كربته، أفضل من حجّة وطواف، وحجّة وطواف حتّى عدّ عشرة، ثمّ خلّى يده وقال: اتقوا الله، ولا تملّوا من الخير، ولا تكسلوا"(5).
لا شكّ في أنّ البرّ هو منفعة يقدّمها المجاهد في سبيل الله خدمة لعباد الله المؤمنين في الذود عنهم، والدفاع عن كراماتهم وأعراضهم، فأيّ صدقة أعظم من هذه الصدقة؟!
1- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج16، ص345.
2- الكافي، الكليني، ج2، ص348.
3- نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 425.
4- أعيان الشيعة، العامليّ، ج1، ص670.
5- مستدرك الوسائل، النوري الطبرسيّ، ج12، ص407.