د. سحر مصطفى
"علينا أن لا نرى أنفسنا أبداً دائنين لخَلق الله عندما نخدمهم، بل هم الذين يمنّون علينا حقّاً، لكونهم وسيلة لخدمة الله جلّ وعلا"(1). يا لها من قاعدة ذهبيّة نبني عليها العمل التطوعيّ، برؤيةٍ جديدةٍ مختلفة، ودافعيّة قلّ نظيرها في الثقافات الإنسانيّة... لكن لماذا نتطوّع ونقدّم خدمات دون مقابل للناس؟ والأهمّ، إلى أيّ مدى يمكننا نشر هذه الثقافة؟
* التطوّع حاجة المجتمعات
في زمن طغيان الروح الماديّة، تعلو تساؤلات كثيرة، ونسمع من هنا وهناك من ينعى العمل التطوعيّ، ويقول إنّه ولّى زمن الخير. ولكن في الواقع، تشير الدراسات الميدانيّة إلى أنّ العمل التطوّعي ما زال قائماً، على الرغم من التغييرات والتحوّلات التي طرأت على مفهومه، والتي ساهمت في تغيير شكله وطرق تنظيمه، وتحوّله إلى عمل مؤسّساتيّ تحكمه قواعد وأصول لتنظيمه وتفعيله.
ولأنّ التطوّع يلبّي الكثير من الحاجات الإنسانيّة، فإنّه لا يمكنه الأفول، ولكنّه قد يكبو في بعض المجتمعات لعدم قدرتها على تطوير آلياته وثقافته لتواكب التغيير.
* أهميّة العمل التطوّعي
"ما هي برأيك أهميّة العمل التطوّعيّ؟". سؤال طُرح في دراسةٍ أجريت حول العمل التطوّعيّ(2)، فكانت الإجابات على الشكل الآتي:
لم يجد أيّ من المستطلعين أنّ العمل التطوّعيّ لا أهميّة له، على الرغم من أنّ 33% من عيّنة الدراسة، والتي بلغت 1184 مستجوباً، لم يشاركوا في أيّ عمل تطوّعيّ من قبل...
* دوافع العمل التطوّعي
وفي إجابة المتطوّعين عن سؤال "ما هو الدافع الأساس الذي دعاك إلى المشاركة في العمل التطوّعيّ؟"، يمكننا قراءة بعض من آثار العمل التطوّعيّ على الأفراد والمجتمع:
شكّل عامل الاقتناع الدينيّ دافعاً محوريّاً للأفراد إلى المساهمة في الأعمال التطوّعيّة المختلفة؛ إذ يزخر تراثنا الإسلاميّ بالأحاديث التي تحثّ على خدمة الناس والتطوّع لمساعدة الآخرين. نذكر منها عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "تنافسوا في المعروف لإخوانكم وكونوا من أهله، فإنّ للجنّة باباً يُقال له المعروف، لا يدخله إلّا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، فإنّ العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكّل الله به مَلَكين، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته..."(3).
وتُضاف إليه مجموعة من الدوافع الأخرى المختلفة والتي تساهم في تلبية احتياجات المجتمع، كما الشخص المتطوّع، ومن أهمّها تقدير الذات، والذي يتجلّى بإحساس الأشخاص بأهميّة ما يقومون به؛ الأمر الذي يجعلهم يشعرون بأنّهم يتركون بصمة في هذا الوجود...
* نشر ثقافة التطوّع
على الرغم من الأهميّة الكبرى للعمل التطوّعيّ في تنمية مهارات الأفراد، وتعزيز مناعتهم النفسيّة، وتلبية احتياجات المجتمع، إلّا أنّ نشر هذه الثقافة ووعي أهميّتها لا زالا ضعيفَين في مجتمعنا، وذلك يعود في جزء منه للتعامل مع التطوّع على أنّه هبة ربّانيّة، إمّا نولد بها أو لا تتوفر لدينا، أو بمنطق اليأس والاستسلام أمام الواقع وكأنّه لا إمكانيّة لرفع هذا الحسّ... بينما يبيّن الكثير من التجارب تهافت الناس للمساعدة وتقديم الخدمات التطوّعيّة عند وجود مبادرات منظّمة، وتحظى بتغطية إعلاميّة تنشر أهميّتها وتروّج لها. وقد بيّنت الدراسة أنّ 28% من المستجوبين يعتبرون أنّ وسائل الإعلام لا تولي ثقافة العمل التطوّعيّ أهميّة تُذكر، وهذه نقطة يجب التوقّف عندها مليّاً...
من هنا، فإنّ تشجيع العمل التطوّعيّ، ونشر ثقافته، وأهميّته على الصعيدين الفرديّ والمجتمعيّ، يمكنها أن تشكّل جزءاً مهمّاً من المشاريع التي تُقدَّم لوضع حلولٍ للعديد من الآفات الاجتماعيّة، كالإدمان على وسائل التواصل، والإنترنت، والألعاب الإلكترونيّة.
* "كن فاعلاً وأحدِث فرقاً"
أنْ تُحدث فرقاً في محيطك هي بصمة لا يمكن أن يضاهي أثرها شيء في رفع دافعيّة الإنسان للحياة والإنجاز. هي رسالة يجب أن نحثّ الجميع عليها.
ويمكننا في هذا الإطار ذكر بعض الأمور التي تساهم في تعزيز روحيّة الاندفاع نحو العمل التطوّعيّ على مختلف الأصعدة:
1- على صعيد الأسرة:
أ- توزيع المهام داخل الأسرة، وتشجيع الأفراد على القيام بمبادراتٍ لمساعدة الأسرة الممتدّة (الأجداد، الأعمام، الأخوال...).
ب- الابتعاد عن تحقير قيمة بعض الأعمال (مثل الأعمال الزراعيّة، أو أعمال تنظيف الحيّ أو الشاطئ...)، وتشجيع الأطفال على المشاركة في الأنشطة التطوّعيّة التي تناسب قدراتهم ومرحلتهم العمرية...
ج- استعراض قصص من سيرة أهل البيت عليهم السلام، ومساهمتهم في تلبية احتياجات المجتمع من خلال العمل التطوّعيّ.
2- على صعيد الثقافة الدينيّة:
يمكن توجيه خطابات علماء الدين حول مفهوم العمل التطوّعيّ في الإسلام وأهميّته، وتوسيع المفهوم ليشمل كافّة الميادين الاجتماعيّة والتنمويّة وسواها، وربط هذه الميادين بالأجر والثواب...
3- على الصعيد الإعلامي:
أ- التوعية على أهميّة العمل التطوّعيّ، عبر تسليط الضوء على مفهومه ومجالاته، وتوجيه الأفراد نحو المؤسسات والجمعيّات التي تستقطب المتطوّعين (يمكن القيام بذلك من خلال أفكار عدّة بسيطة ومؤثّرة، مثال برامج لمدّة خمس دقائق تعرض أفكاراً بسيطة وموجّهة، حملات إعلانيّة على غرار حملة رصد ساعات العمل التطوّعيّ "مدد"(4)...).
ب- تظهير أيّ نشاط تطوّعيّ تقوم به الجهات المعنيّة.
ج- تقديم برامج تكون بمثابة مشروع عمل تطوّعيّ، على نمط بعض البرامج التي تسعى لتغيير حياة بعض الأشخاص من خلال تغيير مكان سكنهم، أو مساعدتهم على تخطّي بعض العقبات.
د- الاستفادة من ساعات الخدمة المجتمعيّة في المدارس(5) لتعزيز مفهوم التطوّع لدى الشباب.
4- على صعيد العمل البلدي ولجان الأحياء:
أ- استقطاب الطاقات المحليّة للعمل التطوّعيّ للمشاركة في الأنشطة التي تقوم بها البلديّات، ولجان الأحياء، ضمن أنشطة منظّمة ومغطّاة إعلاميّاً: (تزيين الأحياء، التحضير لمراسم تشييع الشهداء، مساعدة الأسر المحتاجة...).
ب- الاهتمام بمفهوم العمل التطوّعيّ ضمن خطط العمل البلديّ التنمويّة (إقامة ندوات، تنظيم أسبوع للعمل التطوّعيّ).
ج- إطلاق حملات تطوّعيّة لقطف الزيتون أو البطاطا، أو زراعة الأشجار المثمرة، والترويج لها ضمن طابعٍ احتفاليّ أو تنافسيّ بين الأحياء أو القرى.
د- الاستفادة من المناسبات الدينيّة (عاشوراء، شهر رمضان المبارك) التي تستقطب عدداً كبيراً من المتطوّعين الموسميّين، لتعزيز انخراطهم بالعمل التطوّعيّ.
هـ- إنشاء مكاتب أو لجان خاصّة لمتابعة العمل التطوّعيّ ضمن الأحياء بالتنسيق مع البلديّات، لتكوين قاعدة بيانات لما يمكن لسكان الحيّ أو المنطقة التطوّع به (وقت، خبرة، علاقات، اختصاص صحّي، مهن معيّنة،...)، للاستفادة منهم عند الحاجة.
و- إنشاء جماعات دعم للتكافـــل الاجتماعيّ من الشبــاب، ترصــد الاحتياجــات، وتنفيذ أعمال تعاونيّــــة احتفاليّــــــة، كإعـداد الطعــام على حبّ أهل البيت عليهم السلام وتوزيعه على المحتاجين، وجمع الملابس ومقتنيات معيّنة وتوزيعها من خلال جماعات منظّمة من الأهالي.
ز- إطلاق مشاريع على نمط "حتّى ما يبقى محتاج"، "سلامة الحياة"، "نحن نبني بيوتنا"...
ح- إقامة مسابقات بين الثانويّات الرسميّة حول أجمل ثانويّة يقوم تلامذتها بتزيينها وطلي الجدران وإجراء التصليحات اللازمة فيها...
5- على صعيد مراكز العمل:
تحفيز العمّال على اعتماد ساعات العمل التطوّعيّ، كتقديم أيّام إجازة إضافيّة لمن ينجز عدداً من ساعات العمل التطوّعيّ سنويّاً، أو رحلات تكريميّة...
* أجمل الهدايا
هي الفطرة الإنسانيّة التي تخبرنا بأنّ الهديّة تترك أثراً طيّباً في نفوسنا، ومن يعمل خيراً يلقه... فما بالك بالعمل التطوّعي، الذي هو أجمل تلك الهدايا، لما يحمله من خير، وتضحية، وعطاءٍ، وبذلٍ، وخدمةٍ للناس والمجتمعات؟! فلنعمل على تزكية هذه الفطرة وإعادة إحيائها بالشكل الذي يساعدنا في نشر وتطوير ثقافة التطوّع.
1- خدمة الناس في فكر الإمام الخمينيّ قدس سره، من إصدارات جمعيّة المعارف الثقافيّة الإسلاميّة، ص52.
2- دراسة أعدّها مركز أمان للإرشاد السلوكيّ والاجتماعيّ بعنوان: "واقع العمل التطوّعيّ ومدى فاعليّته في المجتمع"، عام 2015م.
3- الكافي، الكليني، ج2، ص195.
4- هناك مجموعة من الأفكار في هذا المجال تعطى ضمن ورشة تدريبيّة في المركز.
5- لقد ألزمت وزارة التربية في لبنان تلامذة المرحلة الثانويّة بتنفيذ 90 ساعة خدمة مجتمعيّة كشرط للحصول على شهادة الثانويّة العامّة، -مع الأسف- لا زالت هذه الفرصة غير مستغلّة بالشكل الصحيح.