تحقيق: يمنى المقداد الخنسا
مما لا شك فيه أن الكثيرين في شهر رمضان المبارك يزدادون تعلقاً بالله ويعيشون الشهر بأعلى درجات الروحانية والتعبد ويجتهدون لتعزيز مناعتهم الذاتية أمام مغريات إعلامية تحاول العبث بأفكارهم وتعمل على برمجة جوهر الشهر الكريم لجعله مقتصراً على الأكل والشرب وحضور المسلسلات والبرامج الغنائية والاستعراضية... ولكن مما لا شك فيه أيضاً أن لهذه المغريات صدى عند الكثيرين ممن بدّلوا بعض العادات الرمضانية الممدوحة بأخرى مذمومة، فحل التسابق لإعداد الموائد الفاخرة، وحلّت المجاهرة بالإفطار بدل الخجل منه وصار التفرغ لبرامج اللهو والمسلسلات بديلاً عن الاهتمام بالعبادات في هذا الشهر الفضيل وصارت زيارة المقاهي العامة والخيم الرمضانية هي سمة السهرات بدل ارتياد المساجد وزيارة الأرحام. ونذكر فيما يلي بعضاً من العادات المتغيرة من جهة والعادات السيئة المدنسة لحرمة شهر الله من جهة أخرى على لسان أشخاص يفتقدون غياب الأولى ويشهّرون بانتهاكات الثانية.
* أين بساطة المائدة؟
غيّبت طبيعة الموائد الرمضانية الفاخرة البساطة التي كانت تمكّن الفرد من مؤالفة الآخرين على الإفطار وكسب الأجر والثواب بتكلفة غير مرهقة مادياً، أما الآن فتغير الأمر بنظر سميرة (40 عاماً، أم لأربعة أبناء) التي تقول: "لا أستطيع دعوة أحد على الإفطار لأني يجب أن أقيم مائدة فاخرة وإلا سأتعرض للانتقاد وهذا صعب في ظل الغلاء المعيشي الفاحش". وتضيف سميرة: "أصبح شهر رمضان بالنسبة لبعض الناس شهر الأكل والشرب والإسراف والتبذير" لافتة إلى أن بعض الناس يقضون وقتهم الرمضاني في إعداد الطعام، بدل التعبد، ويرمون ما يتبقى منه في القمامة بدل التصدق به على الفقراء.
* ضعف صلة الرحم
أما علاء (30 عاماً، مهنة حرة) فيعبر عن افتقاده للسهرات العائلية الرمضانية التي تجمع الأهل والأقارب معيداً ضعفها إلى تغيّر نفوس الناس بسبب الماديات، متحدثاً أيضاً عن دور المقاهي العامة ومحلات الكومبيوتر في إضعاف صلة الرحم باعتبار أنها باتت الوسيلة المفضلة عند بعض الناس للخروج والترفيه بعد الإفطار. ويرى في الختام أن للمسلسلات دورها السلبي أيضاً إذ يتسمر الناس أمامها لساعات طويلة فتقل همّتهم عن زيارة أرحامهم.
* تسونامي المسلسلات
"أصبح شهر رمضان عند بعض الناس شهر المسلسلات" هذا ما تراه لمى (20 عاماً، طالبة جامعية) مشيرة إلى أن بعضهم يقضون وقتهم في متابعة المسلسلات الرمضانية بينما تقتصر أعمالهم الدينية على ليالي القدر فقط. إضافة إلى ذلك ترى لمى أن بعض الأقنية الإعلامية تدنس حرمة الشهر الفضيل عبر مسلسلات وبرامج فيها مشاهد رقص وغناء... والسبب يعود برأيها إلى تعامل أصحاب هذه القنوات مع الشهر الفضيل من ناحية تجارية ولاكتساب أكبر عدد من المشاهدين.
* المجاهرة بالإفطار
أما فاطمة (35 عاماً، ربة منزل، أم لثلاثة أبناء) فتتحدث عن تهرب بعض الناس من الصيام لأبسط الأسباب مجاهرين بإفطارهم، فهي ترى أشخاصاً يدخنون ويأكلون في الشارع في شهر رمضان دون أي خجل، في حين كان الناس في الماضي يصومون في ظروف صعبة وغير مرفهة كما الآن وكان المفطر منهم يخجل بشدة من المجاهرة بذلك. وتختم قائلة: "في الماضي كانت قلوب الناس طاهرة وكان الصيام أمراً مقدساً أما الآن فإن بعض القلوب تلوثت وتعلقت بمغريات الدنيا أكثر من أمور دينها".
* سوء الخلق بحجة الصيام
هناك عادات وأخلاق سيئة تظهر بشكل ملفت في الشهر الفضيل فتترجم مشاكل وسباباً وشتائم تلوث سمعنا، هذا ما تحدث عنه قاسم (40 عاماً، صاحب محل تجاري، أب لثلاثة أبناء) معيداً السبب إلى صعوبة الأوضاع المعيشية للناس ومضيفاً: "تحصل مشاكل في شهر رمضان بسبب سوء خلق بعض الصائمين وسرعة غضبهم وانفلات أعصابهم بحجة الصيام".
* من أهداف الصوم
للإضاءة على ما سبق وعلى كيفية إحياء الروح العبادية الرمضانية وسبل مواجهة المغريات الإعلامية التي تهدف إلى تفريغ شهر الله من مضمونه، أجرينا لقاء مع فضيلة الشيخ محمد خاتون.
* ما هي آداب وأهداف شهر رمضان المبارك وكيف نحققها؟
إن هدف الصيام كما ورد في القرآن الكريم هو تحصيل التقوى باعتبار أنه إمساك للنفس عن الشهوات من طعام وشراب وأشياء أخرى. والإنسان في حالة الصوم أقدر على تحصيل التقوى والطهارة الذاتية من الأيام التي لا يكون فيها صائماً. إذاً فالتقوى هي من مظاهر الصوم المقبول ونحصل عليها من خلال الالتزام بالآداب العامة الواجبة على مستوى النفس أي أن يكون الإنسان مؤدباً بينه وبين ربه فلا يتطرق سمعه وبصره إلى حرام ولا يتذوق لسانه لحم الناس بالغيبة والنميمة والسباب والشتائم وهو ما فيه إبطال حقيقي للصوم. يقول الرسول صلى الله عليه وآله في خطبة الشهر الفضيل "من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازاً على الصراط يوم تزل فيه الإقدام". ومن أهداف الصوم تذكّر يوم القيامة "واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه" مما يبعث الإنسان على التقوى والخوف من الوقوف في ذلك اليوم. وأيضاً يهدف الصوم إلى التشجيع على الاحترام والرحمة "وتحننوا إلى أيتام الناس يتحنن إلى أيتامكم"، "ووقروا كباركم وارحموا صغاركم".
* هجمة شيطانية
نلاحظ في شهر رمضان المبارك تكثيف الهجمات الإعلامية التي تعمل على تحريف جوهر الشهر الكريم، مَن المستفيد وما هو الهدف منها؟ إن الهجمة الإعلامية اللاأخلاقية المنظّمة في شهر رمضان المبارك هي هجمة شيطانية لمصلحة أعداء الدين الذين لا يريدون لأمتنا الخير. كما تهدف هذه الهجمة إلى نسف قواعد وأهداف الصيام إذ يريد بعضهم لهذا الصوم أن يكون صوماً ظاهرياً خالياً من كل المعاني الأخلاقية والأدبية فيكون امتناعاً عن الطعام والشراب فقط، ومصداقاً لما عبّر عنه النبي صلى الله عليه وآله بقوله: "ربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش". سما هي أسباب انتشار بعض العادات الرمضانية السلبية؟ وماذا عن سبل مواجهتها مع كثرة المغريات الإعلامية؟ إن بعض القنوات الإعلامية لها دور كبير في حالة الفلتان الأخلاقي. وبالمقابل ليس هناك عملية أمر بالمعروف ونهي عن المنكر كافية في وجه ذلك. لذا هناك مظاهر ينبغي أن نواجهها من خلال تفعيل مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على سبيل المثال:
1 هناك من يجاهر بالإفطار وهذا لا يجوز حتى ولو كان الشخص مريضاً.
2ـ يجب تشجيع الفتيات الصائمات والسافرات على مراعاة مسألة الحجاب والالتزام به إكراماً لطاعة الله في هذا الشهر.
3ـ الابتعاد عن حضور المسلسلات التي تضر بالأخلاق والآداب.
4ـ تحريض الناس على الحضور إلى المساجد أو متابعة البرامج الدينية والأدعية ولو من خلال شاشات التلفزة.
ماذا عن الإسراف والتبذير في إعداد الموائد الرمضانية؟
ينبغي المحافظة على بساطة الموائد الرمضانية والالتفات إلى عدم رمي ما يتبقى من طعام في القمامة فهذا فيه إسراف وتبذير والله عزّ وجلّ يقول: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ (الإسراء: 27).
- كيف نفعّل صلة الرحم في الشهر الكريم؟
إن صلة الرحم أمر واجب دائماً لكنها في شهر رمضان أوجب، ويجب تفعيلها. وأيضاً هناك نماذج جميلة يقوم بها بعضهم فيذهبون للإفطار كل يوم عند أحد الأرحام ويأخذون طعامهم معهم أو يفطرون في بعض الأيام مع الأهل وأخرى مع الأرحام أو الأيتام.
* برنامج لتنظيم الوقت
- كيف ننظم وقتنا ضمن برنامج عبادي فعّال في شهر رمضان المبارك؟
ينبغي أن يجعل الإنسان من خطبة النبي صلى الله عليه وآله برنامجا عملياً في شهر رمضان المبارك ليكون صومه كاملاً. وعلى ربة المنزل مثلاً أن تخصص وقتاً محدداً لإعداد طعام الإفطار لا يشغلها عن الوقت المخصص للعبادة. وعلينا الالتزام بالنوم في الليل ساعات محددة وعدم الغفلة عن الاستيقاظ في وقت السحر. وينبغي عدم الاستسلام للنوم طيلة النهار والاهتمام بأوقات الصلاة. وهذا لا يعني أن يمتنع الصائم نهائياً عن النوم فنوم الصائم عبادة في هذا الشهر الفضيل. وينبغي أن يخصص الأهل والأولاد ساعات معينة لقراءة جزء من القرآن الكريم في اليوم بالحد الأدنى. فقد قال النبي صلى الله عليه وآله: "ومن قرأ فيه آية كان كمن ختم القرآن في غيره من الشهور". الأفضل تجنب النوم بعد الإفطار والاستفادة من هذا الوقت بارتياد المسجد أو زيارة الأقارب. إن قراءة الأدعية في المسجد أفضل من قراءتها في المنزل إلا في حال أراد الوالد مشاركة أبنائه وأهل بيته بهدف تعويدهم على ذلك.
- هل من نصائح أخرى توجهونها؟
نصيحتي لكل إنسان أن يعلق خطبة النبي صلى الله عليه وآله في بيته بداية الشهر وأن يقرأها يومياً ويقسّم وقته ضمن خطة معينة فإذا ما أتى على آخره يكون قد حقق ما أراده النبي صلى الله عليه وآله من الأجر والثواب.
كما أن للأيام العشر الأواخر من هذا الشهر ميزة كبرى، وفيها ليالي القدر فبعض الروايات تقول: من لم يُغفر له في ليلة القدر لم يُغفر له إلى ليلة القدر من قابل (أي العام المقبل). نعلم أنّنا في مواجهة مستمرة مع إعلام عربي في اسمه غربي في فعله لا يكل ويمل محاولاً إعدام فكرنا وتراثنا الرمضاني مما يوجب علينا محاربته بسلاح الإرادة والإيمان للوصول إلى ما أوصانا به رسول الله صلى الله عليه وآله حين قال: "فاسألوا الله ربكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم...".