حملت الآيات القرآنية العديد من المفاهيم التربوية ومنها الآيات (63 77) من سورة
الفرقان التي تعرضت لصفات عباد الرحمان والتي سوف نستعرضها في حلقات. اتبع القرآن
الكريم أساليب تربوية متعدّدة. ولعل من أبرز خصائصها أنها تساهم في ترغيب الآخرين
في السعي لتحصيل بعض الصفات. وقد تختلف الآيات الشريفة التي تتناول تلك الصفات
بالإجمال أو التفصيل، وهذا حسب ما يقتضيه مقام القرآن وبلاغته. تحدّث القرآن الكريم
في أماكن متعددة عن الإنسان تحت عنوان "عباد" وأضافها إلى "الرحمان"، حيث تشير هذه
المسألة إلى أن عبودية الله قد تكون أمراً تكوينياً خارجاً عن خيارات الإنسان، وقد
تكون أمراً تشريعياً وهي تعني أن يجعل الشخص نفسه عبداً لآخر.
* الأسلوب الترغيبي للقرآن في ذكر أوصاف أهل الفلاح
من الأساليب التي اعتمدها القرآن الكريم أن يأتي على ذكر صفة ما بحيث يؤدي ذكرها
إلى ترغيب الآخرين بها. مثلاً جاء في بداية سورة البقرة قوله تعالى:
﴿ألم*ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ
هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾
(البقرة: 2)، فتحدث عن المتقين ثم بدأ بتعداد أوصافهم:
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ*وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ﴾
(البقرة:4). ثم بيّن أنّ الذين يحوزون هذه الصفات هم من المهتدين
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدى مِنْ رَبِّهِمْ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
(البقرة: 5). ونشاهد هذا الأسلوب في العديد من السور القرآنية الأخرى كسورة
لقمان... كذلك جاء في سورة البقرة:
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ
وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ...
﴾ (البقرة: 177)، ثم قال:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾
(البقرة: 177). عندما يحاول الإنسان المقارنة بين هذه المجموعة من الآيات
الشريفة يجدها متطابقة، وأما الخلاف بينها فهو بالإجمال والتفصيل. وقد يضيف إليها
صفةً خاصةً حسب ما يقتضيه المقام، مثلاً يتحدث بعد عددٍ من الصفات عن المفلحين، ففي
بداية سورة المؤمنون:
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾
نجد أن النتيجة
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ...
﴾، وفي أواخر سورة البقرة نقرأ
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
(البقرة:5)... ثم يذكر في كل مورد مجموعة من الصفات التي تختلف عن الآخر بما
يقتضيه المقام.
* العناية الخاصة للباري في إطلاق عباد الرحمان
بدايةً نشير إلى أن القرآن الكريم تحدث في أماكن عديدة حول الناس تحت اسم "العباد"،
إلا أنّه أضاف إليها تارة "الله":
﴿عِبَادَ اللهِ﴾،
وتارة ثانية الرحمان:
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَن﴾
وتارة ثالثة أضاف إليها ياء المتكلم:
﴿عِبَادِي﴾
وتارة ذكرها مع الألف واللام:
﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾
(آل عمران: 15)، أو الضمير المتصل:
﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ
خَبِيراً بَصِيراً﴾
(الإسراء: 17). الواضح أنه عندما يتم إضافة ياء المتكلم إلى كلمة "عباد"
فهذا يعني أن لها قيمةً وعنايةً خاصّتين، أو أنّه أريد منها توضيح مسألةٍ خاصّة.
جاء في العديد من الآيات الشريفة عبارة "عبادي"، و"عبادي" لا تساوي الناس، بل "عبادي"
تمتلك معنى خاصاً يحمل نوعاً من الترغيب في التوجه نحو الله تعالى:
﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي
جَنَّتِي﴾
(الفجر: 30).
* الفرق بين معنى الإطلاق العام والخاص في القرآن الكريم
استعمل القرآن الكريم المفاهيم على شكلين: عام وخاص. والمعنى العام يشمل الجميع،
وعكسه الخاص إذ يصدق على مصداقٍ واحد. مثال ذلك استعمال القرآن عبارة "الولاية" على
نحوين: عام وخاص. الولاية العامّة الإلهية لجميع الناس
﴿هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ للهِ الْحَقِّ﴾
(الكهف: 44)، والولاية الخاصة التي ليست لجميع الناس:
﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾
(البقرة: 257). في الأولى تشمل الولاية الجميع حتى الكافرين وفي الثانية فإن
الكافرين لا مولى لهم. وتسري المسألة على عبارة "العباد"، فقد تكون شاملة للجميع:
﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾
(آل عمران: 15) أي المؤمن والكافر والفاسق والفاجر، وقد يكون لها معنى خاص:
﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾
حيث يختلف معنى العباد هنا عن الأماكن الأخرى. فالمقصود منها هنا أن عبادي مشمولون
بالرحمة الإلهية الخاصة وهم يمتلكون لياقة إدراك الرحمة الإلهية اللامتناهية.
* العبودية التكوينية والعبودية التشريعية
قد يلحظ من "العبد" المفهوم التكويني؛ أي عبودية الإنسان لله، وذلك بشكلٍ تكوينيّ
خارجٍ عن اختياره، فلا أحد يمكنه الخروج عن ملك الله، لأن كل ما يملكه العبد ملك
الله وهو الذي أعطاه للعبد. وقد تكون العبودية اختياريةً (تشريعية) أي أن يقبل شخص
عبودية نفسه، فيلتزم بمقتضياتها. طبعاً لا تكون كافة المخلوقات على هذا النحو.
ويلزم من هذه العبودية العبادة؛ فالعبادة من مادة "العبد".
* عبادة الهوى وعبادة الله
الناس قسمان، بعضهم يكون عبداً لله وبعضهم الآخر عبداً للنفس أو الشيطان. جاء في
القرآن الكريم:
﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي
آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ*وَأَنِ
اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾
(يس:60 61). أما كيف يكون الشخص عبداً لله أو عبداً للشيطان، فهذا بحث طويل
لا يسع المقام ذكره، إلا أنه يجب القول: إن عبد الله هو الذي يتبع الله والرسول صلى
الله عليه وآله، والذي يخالف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وآله هو عبد
للشيطان. ونفهم من الآيات الشريفة أن اتباع هوى النفس من جملة مصاديق عبادة الشيطان.
الناس إما عُبّاد لله، وإما عُبّاد للأهواء وللشيطان. وقد تحدث القرآن الكريم حول
عبّاد الأهواء، فجاء في سورة الفرقان:
﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً*أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلاً﴾
(الفرقان: 43 44). وجاء في آية أخرى قوله تعالى:
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ﴾
(الجاثية: 23). فالإنسان إما عبدٌ لله أو للأهواء ولا وجود لطريقٍ ثالثٍ
بينهما.
* عبادة غير واعية
بعض الناس قد حرّر نفسه من قيد العبودية، وقرّر أن يتّخذ بنفسه كافّة قراراته، فهو
عبد لنفسه، أي لهوى النفس، يخطِّط لها ويضلّها. وهذا ما يريده الشيطان، فهم بذلك
يتصورون أنهم أحرار وما هم كذلك؛ لأن الحرّ من كان عبداً لله. لأن الحرية الحقيقية
لا تتحقّق إلا في ظل العبودية لله. يتحدث القرآن الكريم عن أن الإنسان إما أن يكون
عبداً لله أو عبداً للشيطان، وإما أن يكون أسلوبه وسلوكه العملي موافقاً لأوامر
الله ومنخرطاً في طاعته أو العكس من ذلك إذ يكون موافقاً للشيطان. وتشير مسألة
اتخاذ معبود إلى مقدار المعرفة والجهل الذي يحيط بالإنسان. والمسلم الذي يتخذ الله
معبوداً ويقوم بما تستلزمه العبودية من العبادة وغيرها، فإن هذا ينطلق من معرفةٍ
ووعي، لأننا نتصوّر وجود موجودٍ كاملٍ بالمطلق وشريفٍ يكون وجودنا منه، ونحن نظهر
له كامل الخضوع، فهذه هي العبودية الواعية. فإذا فُقد الاعتقاد فقدت العبادة. وعكس
هذه العبادة، عبادة الشيطان. ومن غير الواضح مقدار المعرفة والوعي عند الإنسان الذي
يعبد الشيطان.