الشهيد السعيد آية الله مرتضى مطهري
* المراتب الدنيا للعبادة
والآن لنبحث في العبادة التي يؤديها الإنسان رغبةً في الجنة أو خوفاً من النار. فهل صحيح، أنه لا توجد قيمة لهذه العبادة؟ وأنها كما قالوا: تطرف في عبادة البطن، والذات، وزيادة في الطمع؟ وأنها أسوأ مئة مرة من عبادة الدنيا؟ كلا فإن ضربها بهذا الشكل ليس صحيحاً. فليس من شك أن العبادة رغبة في الجنة أو خوفاً من النار ليس لها نفس قيمة تلك العبادة التي ذكرنا. ولكن هذا لا يعني أن لا يكون لها قيمة مطلقاً، فهي قد تشكل مرتبة عالية لفئة من الناس وهناك فرق بين أن يقوم الإنسان الذي يسعى مباشرة خلف المال، وهو عبادة للمال مئة بالمئة، وأحياناً يريد المال ولكنه يطلبه من الله، فيتجه نحو الله ويطلبه منه. وهذا يختلف كثيراً عن الذي قطع علاقته بالمال كلياً وقصد المال مباشرة. والبعض الآخر يعمل بصورة أخرى يقول: إني أعمل بحسب أوامره وأريد أن يعطيني مالاً.
فهذه أيضاً مرتبة من عبادة الله، اتجاه نحو الله، حتى ولو كان ذلك من أجل المال. فهو يختلف عن عدم التوجه نحو الله مطلقاً. صحيح أن للتوجه نحو الله من أجل الله قيمة رفيعة، ولكن الذهاب نحوه من أجل شيء، وطلب شيء منه، هو ذهاب إليه أيضاً، إنه يضيء قلب الإنسان إلى حد ما، يجد الإنسان في نفسه صفاءً، فيغفل عن غير الله ويلتفت إليه، وهذا بنفسه قطعاً مرتبة من العبادة ولو كانت مرتبة ضعيفة.
بناءً عليه لا يمكننا رفض هذه العبادة مطلقاً، فليس كل الناس في مرتبة عالية. ولو أردنا تربية أكثر الناس بحيث يُصحح نظام حياتهم، فيقتربون من الله، يجب علينا أن ندخل من هذا الباب، أو على الأقل يجب إدخال الأفراد من هذا الباب، ومن ثم يؤخذون إلى مراتب أرقى. وهذا هو السبب الذي من أجله أولى القرآن الكريم الأمور المادية عناية كبيرة، ولكن القرآن يذكر الرضوان بقوله تعالى:
﴿ورضوان من الله أكبر﴾1. فعندما يذكر: ﴿جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ يقول عد ذلك ﴿ورضوان من الله أكبر﴾ أي من أراد عبادة الله من أجل رضاه فذلك شيء آخر، ولكن ليس كل الناس يشترون ﴿رضوانٌ من الله أكبر﴾، ولا نصف الناس فذلك شيء آخر بل قلة راقية هي كذلك. فالطريق العملية لأكثر الناس هي هذه، حيث يجري الحديث معهم على أساس (اللذات الجسدية. ومن الطبيعي أن القرآن لم يذكر هذا كي يهذب الناس فقط فهو بنفسه يقول ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه﴾2 ولا يمكن أن يتحدث كذباً وباطلاً، حتى ولو كان أجل مصلحة (والعياذ بالله) كدفع الناس نحو فعل الخيرات أو كان لديه هدف حسن فيتكلم بأي كلام من أجل ذلك، كلا فالقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ويستحيل أن يكون في كلام الله كذب حتى ولو كان لمصلحة اجتماعية (فحديث القرآن حول اللذات الجسدية في الجنة حقيقي) وذلك لأن أكثر الناس لا يتجاوزون حد الجسد والشهوات الجسدية، ولهذا سيكون ثوابهم هذا، أما الذين يرتفعون أكثر فثوابهم أرفع من الجنة والجسدية.
* أثر العبادة في التربية
النتيجة التي نحصل عليها هي أنه لو كان الإنسان راغباً بتربية نفسه وتربية أبنائه تربيةً إسلامية من الناحية العبادية، فعليه أن يهتم بصدق بمسألة العبادة والدعاء. وبغض النظر عن كونهما تربية لحس أصيل لها تأثير كبير على سائر جوانب الإنسان، ولهذا يوصي الأكابر بتوفير المرء ساعة لنفسه مهما كان حجم عمله. ويمكن أن يقول الإنسان لا وقت لدي لنفسي، فكل وقتي أقضيه في خدمة الناس، فنقول: هذا ليس جيداً، وينبغي للمرء أن لا يستغني عن ساعة لنفسه ينصرف فيها لقضاء حاجاته التي تؤمن له الاستمرار في خدمة الناس. وعندما يتحدث كبراؤنا عن ساعة فهذا من باب الحد الأدنى.
فلا بد للإنسان أن يوفر لنفسه وقتاً في الليل والنهار، ليعود بنفسه من الخارج، ويأتي بها إلى داخله وربه، فلا يبقي فيها إلا هو وربه والدعاء والتضرع والمناجاة والاستغفار إذ الاستغفار، بنفسه محاسبة للنفس، حيث يحسب المرء ما فعله خلال الأربع وعشرين ساعة فيتضح له الفعل الحسن، فيشكر الله، ويندم لقيامه بالفعل السيء، فيصمم على تركه وعدم العودة إليه ويستغفر. وقد اهتم الإسلام كثيراً بمسألة الاستغفار! فمما نقل عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "رهبان الليل وأسد النهار" وقد جاء في القرآن الكريم: ﴿الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار﴾3 فلننظر كيف بيَّن القرآن جميع الجوانب؟]! لا كالدرويش المفرط الذي لا يتحدث إلا عن الاستغفار والعبادة. فقد قال: ﴿الصابرين﴾ وعندما يتحدث القرآن عن الصابرين إنما يشير بذلك إلى المجاهدين على وجه الخصوص والصادقين "هم الذين لا ينحرفون عن الصدق قيد أنملة" ﴿والقانتين﴾ أولئك الذين يقنتون مع كمال الخضوع، فهم خاضعون بقلوبهم (وقد يكون المقصود من قانتين أنهم لا يتحدثون إلا مع الله ويقطعون علاقاتهم مع غيره وهذا يفهم من آية ﴿قوموا لله قانتين﴾ ﴿والمنفقين﴾ الذي يمنحون الآخرين ما لديهم. "والمستغفرين بالأسحار الذين يقضون الأسحار بالاستغفار وهذا ما يجب أن يكون ملازماً للعبادة.
* طريق الاعتدال
نحن أناس نعيش بين الإفراط والتفريط، حيث أننا إذا ما اتخذنا شيئاً نسينا الأشياء الأخرى. جاء في الآيات الكريمة من آخر سورة "الفتح": ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوهم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار﴾4.
هي آيات عجيبة فمحمد صلى الله عليه وآله رسول الله والذين معه (ليس لوحده بل هو وأصحابه الذين تربوا، فأول صفة يصفهم بها هي القدرة والقوة في مقابل العدو) أشداء ولكنهم مليئون بالعاطفة والرحمة، وترتبط هاتان الخصلتان بالجانب الإيجابي والجانب السلبي في العلاقات والروابط الاجتماعية مع الصديق والعدو. ومن المؤكد أن الملاك في الود والعداوة ليس ملاكاً شخصياً. فالود والعداوة مسلكان إنسانيان. بعد ذلك يتحدث عن العبادة. ولو قال ذلك فقط لأصبح مثل المذاهب الاجتماعية في عصرنا الحاضر، ولكنه تحدث مباشرة عن المستغفرين بالأسحار ﴿تراهم ركعاً سجداً﴾. فنفس أولئك الذين هم كالأسود في ساحات الوغى هم رحماء راكعين ساجدين عابدين يطلبون من الله رحمةً وفضلاً، ترى على وجوهم آثار السجود، يريدون رضىً ورضواناً وفضلاً منه. يريدون "رضوان من الله أكبر" قليل من كل الجنة والجنات. بعد ذلك يحدثنا من جديد عن دورهم وأثرهم الاجتماعي مثلهم في التوراة والإنجيل كزرع لا يكاد ينبت ويُطل برأسه حيث يعجب زراعه، وينمو شيئاً فشيئاً حتى يقف على أقدامه ليثير الحيرة في نفوس زراعه (هنا يبين القرآن حالة رشد المجتمع الإسلامي).
ويتحدث القرآن بشكل شمولي.، مرّ وقت على مجتمعنا كان مبتلىً بمرض، جعل معه الإسلام دين عبادة فقط. وأي عبادة! فقد كان ملاك اعتبار الإنسان مسلماً ذهابه إلى المسجد وأداءه للعبادات وكثرة الدعاء، ظهر هذا الأمر في مجتمعنا كمرض. ولكن شيئاً فشيئاً ظهرت في وسطنا علائم مرض آخر. فقد ظهرت مجموعة اهتمت بالجوانب الاجتماعية للإسلام وأهملت الجوانب المعنوية. وهذا مرض أيضاً. فلو دخل مجتمعنا في هذه المتاهة وترك ذلك الجانب، لكان أيضاً مجتمعاً منحرفاً، بنفس الحجم الذي كان المجتمع السابق منحرفاً لأنهما مخالفان للمجتمع الذي أسسه النبي والذي كان مجتمعاً معتدلاً، وفي نظرة منا إلى التاريخ نجد أن لا نظير للمجتمع الإسلامي.
فأولئك الذين كانوا يشاركون في الحرب ضد إيران والروم كانوا من جماعة: "قائم الليل وصائم النهار"، وفي نفس الوقت: "ضارب بالسيف" يقف إلى الصباح يعبد الله، يغرق في الدعاء والتضرع، أما في النهار فصائم. ومع أنه كان يقضي الليل قائماً والنهار صائماً كان صلباً في ساحات الوغى بحيث لم يكن بإمكان أحد الوقوف أمامه فلو إنه كان يشتغل ليلاً بالعبادة ونهاراً بالصوم دون أن يخرج من المسجد لما كان مسلماً، ولو كان يحسن الحرب فقط دون أن يهتم بالجانب الآخر، لكان إنساناً يسعى خلف مطامعه مثله تماماً كمثل سائر المحاربين الذين يحاربون لتحقيق مصالحهم. فقيمة الإسلام في جامعيته. وعلينا أن لا ننسى أبداً هذه الجامعية إذ الإسلام كأي مركب آخر، عندما يفقد أحد أجزائه يغرق. فعندما ندقق في تركيب بدن الإنسان نجد أنه يحتاج لأمور عدة، من الفيتامين وغير ذلك، وإذا ما نقص في جسمه منها أو زاد فإنه يفقد توازنه وسلامته.
إذاً فمن جملة الأشياء التي يجب أن نلتفت إليها: أولاً أن نربي في أنفسنا وأبنائنا حسّ العبادة بمعناه الواقعي، لا بمعنى القيام والركوع بحيث لا نفهم معناه، فلا نفهم معنى الحال ولا معنى المناجاة والتضرع، والانقطاع إلى الحق ولا معنى أن نقضي لحظات لا نتذكر فيها إلا الله إذ أن هذه العبادة غير مجدية وليس منها أيضاً أن يُغلق فمه من الصباح إلى المساء فيجب علينا حتماً أن نربي هذا الحس فينا حتى يظهر أحد أركان التربية الإسلامية فينا.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
1 سورة التوبة، الآية: 72.
2 سورة فصلت، الآية: 42.
3 سورة آل عمران، الآية: 17.
4 سورة الفتح، الآية: 29.