أدرك الإنسان عبر التاريخ أن صحته وصحة أقرانه وأولاده مرتبطةٌ بمحيطه البيئي بشكلٍ
مباشر. واكتشف شيئاً فشيئاً أن أحوال بدنه وعافيته وحركته اليومية وإيقاعات نشاطه
الجسماني والعقلي مرتبطةٌ بشكلٍ أو بآخر بدرجة النقاء في الهواء الذي يتنفسه،
وبنسبة الطهارة في الماء الذي يشربه، وبمعايير النظافة في الغذاء الذي يتناوله،
وبمبادىء السلامة في المساحة التي يتحرك فيها.
* الإنسان تمرّد ثم ندم
تمرّد الإنسان على هذه الحقيقة الثابتة وراح يصول ويجول في كل ما ينافيها من تلويثٍ
للهواء والفضاء، وتدميرٍ للغابات والأدغال، وإفسادٍ للأنهار والبحار، وتخريبٍ
للطبيعة وللنظم والمنظومات الموضوعة فيها بحكمةٍ بالغةِ الكمال والجمال، والموزونة
فيها بميزان العدل والإحسان، والمقدّرة فيها بأحسن التقدير وأعظم التدبير. ولما لم
يرعوِ الإنسان من خلال ما سمّاه وتبنّاه من نهضاتٍ صناعيةٍ وعمرانيةٍ وتكنولوجية،
ومن خلال إزالته وتخريبه لـ"رئة الأرض" و"طبقة الأوزون" و"الجبال" و"الغلاف الجوي"
و"الهواء الخارجي" و"المياه الجوفية" وغيرها من أسس الحياة على كوكب الأرض, راح
يوماً بعد يوم يعيد حساباته ويراجع ما جنته يداه على نفسه وأهله وذريته ومجتمعه،
ويتفحّص آثار فعلته ويجمع البصمات والدلائل والبراهين.
وهكذا أخذت الدراسات
والأبحاث تتوسع وتتكاثر لمعرفة وحصر الأضرار الناتجة عن تدمير الإنسان للبيئة
وتتركز الآن حول اكتشاف الآثار الصحية لمشكلة الاحتباس الحراري، والتي فاقت كل
التوقعات وتجاوزت كل الحسابات, فبالإضافة إلى ظهور أمراضٍ جرثوميةٍ جديدةٍ بسبب
تغيّر المناخ وحرارة الأرض، تفاقمت حالاتٌ أخرى من الأمراض الجرثومية "التقليدية"
التي كانت "محصورةً" في مناطق محددةٍ من العالم، وتعتبر "تحت السيطرة" حتى وقتنا
الحاضر. أهم هذه المشكلات وأصعبها هي مشكلة تزايد أعداد البعوض الحامل للملاريا
وتكاثره في مناطق أوسع وأبعد مدى من ذي قبل، وذلك بسبب ارتفاع درجة الحرارة الناتجة
عن ظاهرة الاحتباس الحراري. وهناك مشكلة انتشار الأمراض الجرثومية المنقولة عبر
المياه الملوثة والمسببَّة للكثير من أنواع "الإسهال" ومشكلة تلوث الهواء الداخلي
والخارجي والتي أدّت إلى انتشار الكثير من أمراض الجهاز التنفسي بمختلف أنواعها من
الجرثومية الحادّة إلى الانسدادية المزمنة.
* بيئة جديدة لأمراض جديدة
وإذا تفحصنا لائحة الأمراض الجرثومية "الجديدة"، والتي تنتقل عادةً عبر البعوض، نجد
أنها ظهرت وتكاثرت في أماكن "غير متوقعة" كبلدان ومدن أوروبا وأمريكا الشمالية
وبعيداً عن أمكنتها المعتادة و"أحواضها" و"حواضنها" في محيط الأنهار والبحيرات في
آسيا وأفريقيا. وما ظهور مرض "الشيكوغونيا" المسبّب للصداع وآلام المفاصل والعضلات
وارتفاع درجات الحرارة، والمؤدي إلى الوفاة أحياناً كثيرة, في إيطاليا وفرنسا حالياً
بعد اكتشافه لأول مرة في تنزانيا عام 1952م إلا دليل قاطع على تغير المناخ في هذه
الدول الأوروبية وتـناسب بيئتها "المتحولة" مع البيئة الخاصة بتكاثر البعوض الناقل
للمرض.
هناك أيضاً الكثير من العوامل والمشاكل البيئية التي سبّبت وتسبّب
حالياً الكثير من المشاكل الصحية، خاصةً في الدول النامية، منها نقص موارد المياه،
وعدم الحفاظ على المحميات الطبيعية من جبال وأنهار وبحيرات وغابات، وسوء التخطيط في
استخدام الأراضي ونظم الصرف الصحي والنقل والمواصلات وغيرها من الأمور "العبثية"
التي لا تسبب إلا الكوارث الصحية والاجتماعية للإنسان والمجتمع، هذا بالإضافة لما
تسبّبه أيضاً من ازدياد نسب حوادث المرور وتفاقم الحوادث المهنية والصناعية. وظهرت
من ناحيةٍ أخرى أمراض قاتلة وخطيرة على الفرد والمجتمع، مرتبطة بعوامل بيئيةٍ بحتةٍ
كتلوث المياه وتلوث الهواء وتلوث الغذاء بالمواد الصناعية والإشعاعية المسببِّة
للسرطان, نذكر منها سرطان الرئة وغشائها، وسرطان المثانة، وسرطان الدم، وسرطان
الدماغ وسرطان الغدة الدرقية. كما لا يمكننا أن ننسى تأثير تلوث الهواء الدّاخلي
والخارجي في ظهور الأصناف العديدة والمتنوّعة من حساسيّة الجلد والأنف والصَّدر،
وتأثير الاكتظاظ السكاني وسوء تنظيم السَّكن في انتشار أمراضٍ أخرى كالسّلّ الرئوي
والأمراض الفيروسية وغيرها. هل المشكلة باتت غير قابلةٍ للحلّ؟!
هذا ما
يتداوله العارفون والباحثون في الموضوع وينقسمون حوله بين فريقٍ متشائمٍ وفريق قليل
التفاؤل, فالموضوع برمّته خرج عن نطاق المقدور عليه، وبات من خصائص التعاون الدولي
والعالمي بشكل عام ومطلق، لأنه يقتضي إجراءاتٍ صارمةً جداً على صعيد الصناعة
العالمية وأسواق الزراعة العالمية ومصادر الطاقة العالمية ومنتديات السياسة
العالمية، وقراراً شاملاً لا رجعة عنه بوقف الحرب على الطبيعة التي ما خلقت إلا
لحفظ المخلوقات، وما سخّرت إلا لحفظ الحياة....... لأعقل المخلوقات!
(*) استشاري في أمراض الأنسجة والخلايا ورئيس شعبة في هيئة الصحة، حكومة دبي.