آية الله الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي
يقول الإمام الصادق عليه السلام مخاطباً عبد الله بن جندب: " يا بن جندب، إنّما
المؤمنون الّذين يخافون الله، ويشفقون أن يُسلبوا ما أُعطوا من الهدى، فإذا ذكروا
الله ونعماءه وجلوا وأشفقوا، وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ممّا أظهره من
نفاذ قدرته وعلى ربّهم يتوكلون". (1)
* حقيقة الإيمان
توضح الرواية المتقدّمة ماهية الإيمان الحقيقي وتبيّن آثاره في الإنسان. وقد ورد
الكثير من الآيات والروايات لتوضيح وتعريف الإيمان الحقيقي وآثاره على الإنسان
وبالتالي تعريف المؤمن الحقيقي، على أساس أن النّاس يظنون بأن الإنسان إما أن يكون
مؤمناً أو كافراً، فإذا لم يكن كافراً فهو بالتأكيد مؤمن ولا بدّ أن تظهر آثار
الإيمان عليه. ويبدو أن هذا الفهم غير الصحيح قد ظهر منذ بداية الإسلام حيث كان
الحديث عن "الإسلام الظاهري" الذي يقابله "الكفر الظاهري"، فقد يكون الشخص مؤمناً
في الظاهر، ولكنه من أهل النار يوم القيامة، وهذا يعني أنّه منافق وليس بمؤمنٍ.
ويظهر زيف إيمان المنافق عندما يقبل ظاهراً رسالة النّبيّ صلى الله عليه وآله ولكنه
يخالفها عند العمل. طبعاً المنافق الذي تلفَّظ بالشهادتين تجري عليه الأحكام
الظاهرية من حيث الزواج والإرث... لكنه في الآخرة من الخاسرين؛ لأنه قد أسلم بلسانه
فقط:
﴿قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي
قُلُوبِكُمْ﴾.
(الحجرات:14).
وهذا يعني أن الإيمان هو مسألة تتعلق بالقلب، فلو كان المؤمن
معتقداً واقعاً بالإسلام فهذا يعني أن هذه الاعتقادات ستظهر آثارها في القلب،
وستظهر بعض آثارها أيضاً على مستوى الظاهر. وأحياناً أخرى قد يكون الشخص مؤمناً حقاً
إلا أنه لا يتمكن من إظهار إيمانه، كمؤمن آل فرعون، والشيعة يعتقدون بأن أبا طالب
قد آمن بالإسلام إلّا أنّه لم يتمكن من إظهار إيمانه ليقوم بحماية النّبيّ صلى الله
عليه وآله من الأعداء. الإيمان الصحيح هو الذي ينجي صاحبه إذا تمكن من الاحتفاظ به
حتّى اللحظات الأخيرة. أما ارتكاب المعاصي فإنّه يؤدِّي إلى إضعاف الإيمان حيث يزول
بالتدريج فيصبح الإنسان كافراً من حيث الباطن. وقد تحدث القرآن الكريم عن هذه
الحالات.
﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ
أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ﴾.
(الروم:10). من جهة أخرى عارض الأئمة عليهم السلام عقيدة الخوارج، التي قالت
إن ارتكاب الذنوب الكبيرة يُخرج من الإيمان فوراً. فالله قد أعطى الشخص فرصة للتوبة
والعودة.
* ما معنى الإيمان بالشهادة؟
وعلى هذا الأساس نجد أن الإسلام الظاهري والإيمان مقولتان متفاوتتان. فالإسلام
الظاهري هو معيار للأحكام الظاهرية الاجتماعية. طبعاً هناك تصور خاطئ، فبعضهم يظن
أن مجرد تلفظ الشهادتين يؤدّي إلى الإسلام، والإسلام يؤدّي إلى النجاة. ولكن ما هو
حال الذي تلفظ بالشهادتين ولم يؤمن بالآخرة؟ من هنا نقول إن ذاك التصوّر ينقصه شيء
من المعرفة بمسائل ومعارف الإسلام. قيل إن الشهادة بالرسالة تعني الشهادة بها
وبلوازمها، أي قبول كلّ ما جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله من عند الله
تعالى. ومن جملة الأمور الّتي جاء بها الإيمان بالمعاد. ومن هنا نقول: إن الإسلام
الظاهري يؤدّي إلى جريان الأحكام الظاهرية فقط، وقد يكون هذا الإنسان إنساناً حسناً
ولكن لا علاقة له بالإيمان
﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي
قُلُوبِكُمْ﴾
(الحجرات: 14). طبعاً للإسلام مراتب متعدّدة حتّى أن الأنبياء كانوا
يدعون الله ويطلبون منه الوصول إلى المراتب العالية. نقرأ عن النبيّ إبراهيم عليه
السلام والنبيّ إسماعيل عليه السلام قولهما:
﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾
(البقرة: 128). وهذا يعني وجود مراتب ودرجات أخرى للإسلام.
تحدث بعض
الروايات عن المؤمن عند رحيله عن الدنيا، فإذا كان له ذنوب ولم يستغفر الله ويتوب،
يأتي ملك الموت ليطهّره أثناء سكرَات الموت، وإذا كانت ذنوبه أكبر من ذلك، كانت
أوّل ليلة له في القبر صعبة. ومن هنا تحدثت الروايات الواردة عن الأئمة الأطهار
عليهم السلام داعية المؤمن إلى العمل لأجل النجاة من القبر؛ مؤكدةً على أن الشفاعة
تكون يوم الحساب. ومن الخطأ أن يفكر الشخص بالمعاصي أو يعمل بها موكلاً أمرها إلى
الشفاعة، لأن ذلك لن يردعه عن القيام بأي عمل قبيح. من جهة أخرى تتحدث بعض الروايات
حول مراتب الإيمان الحقيقي، فاعتبر بعضهم أنها عشرة واعتبر آخرون أنها سبعة، وإذا
دققنا النظر حول هذه المسألة لأدركنا عدم تناهي درجات الإيمان الحقيقي، حيث يكون
لكل شخص مرتبة ودرجة قد لا تلتقي مع مرتبة ودرجة الآخر.
* علامات الإيمان الحقيقي
من هنا يجب أن نسعى جاهدين لتحصيل الإيمان الحقيقي وأن لا نكتفي بالظاهري. يجب أن
ندرك مقدار الإيمان الساكن في قلوبنا. وإذا حلّ الإيمان في القلب عندها يبدأ الشخص
العمل لتحصيل المراتب الأعلى، وكلما نظر إلى المراتب السافلة أدرك مقدار السعادة
التي تحيط به. تتحدث بعض الآيات القرآنية حول الإيمان الحقيقي، وتدعو هذه الآيات
الناس إليه وإلى تحصيل المراتب العالية منه. جاء في سورة الأنفال:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
(الأنفال: 2). وعلى هذا الأساس فإن: أوّل علامات الإيمان الحقيقي أن
يرتجف القلب عند ذكر الله تعالى. ويمكننا أن نعرف إذا ما كانت هذه الحالة موجودة في
قلوبنا. ولكن ما هو سر العلاقة بين الإيمان وهذه الحالة القلبية؟, "القلب" في
المصطلح القرآني عبارة عن مركز المعرفة البشرية، وهو مركز الأحاسيس والعواطف
واليقين والإيمان والمحبة والبغض والخوف والرجاء... وعلى هذا الأساس فالقلب في
المصطلح القرآني هو الذي تحصل فيه هذه الآثار. وإذا كانت هذه الحالات موجودة فيه
يجب أن تظهر عند الحاجة إليها، وهذا دليل وجودها فيه. فإذا ذكر الإنسان الإمام صاحب
العصر والزمان عجل الله فرجه، ارتعش قلبه وشعر بالميل نحوه وهذا دليل على وجوده في
القلب. أما العلامة الثانية للإيمان الحقيقي فهي ما جاء في الآية الشريفة:
﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾.(الأنفال:
2). وهذا يعني أن الإيمان الحقيقي ليس أمراً ساكناً وجامداً، بل هو حيوي
مُتحرّك يقبل النمو والزيادة. فالمؤمن يزداد إيمانه إذا تليت عليه آيات الله تعالى؛
مثال ذلك: لو تلقينا رسالة من صديق عندها يزداد شوقنا لرؤيته، وهكذا القرآن الكريم
الذي إذا قرئ على المؤمنين يزداد إيمانهم وشوقهم لمراتب الإيمان الأخرى، وإلّا
لكانوا ضعاف الإيمان.
العلامة الثالثة للإيمان الحقيقي قوله تعالى:
﴿وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾
(الأنفال:2). وهذا يعني أن المعرفة الموجودة في القلب نتيجة الإيمان
تجعل المؤمن الحقيقي يتوكل على الله تعالى في جميع الأمور والحالات.
ومن هنا ندرك
أن الإنسان لا يتوكل على الله تعالى إلّا إذا عرف حقاً بأن الله تعالى هو مسبب
الأسباب وإليه ترجع الأمور، وإذا غفل عن ذلك لما أمكنه التوكل عليه.
ذكرنا ثلاث
علامات للمؤمن يضاف إليها كما تتحدث الآية الشريفة إقامة الصلاة والإنفاق. أمّا
الحالات القلبية الّتي تظهر في قلب الإنسان على أثر الإيمان فهي نتيجة العلامات
المتقدمة. من أبرز هذه الحالات "الوجل" أي اقشعرار القلب:
﴿كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم﴾،
ثم يلي ذلك الوجل:
﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾
(الزمر: 23). طبعاً الوجل والخوف من الله تعالى هام جداً، فإذا فُقد
الوجل عندها يجب أن ندرك أن إيماننا ضعيف. لذلك عندما يذكر الله تعالى العلامات
والأوصاف المتقدمة يقول:
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً﴾
(الأنفال: 4). وإذا لم يترك الإيمان أي أثر في القلب فهو ليس إيماناً،
لذلك خاطب الإمام الصادق عليه السلام ابن جندب قائلاً: "إنما المؤمنون الذين يخافون
الله". نرجو الله تعالى أن يتفضل علينا بالإيمان الواقعي إنّه سميع مجيب.
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج75، ص 280.