آية الله ناصر مكارم الشيرازي
في الحلقة الماضية أعطى آية الله مكارم معركة أحد بتفاصيلها المتنوعة كدرس يمكن الاستفادة منه لدراسة عوامل النجاح والفشل، وفي هذه الحلقة يكمل الحديث عن جوانب تلك الهزيمة التي حلت بالمسلمين.
* عصيان الأوامر
وقف الجيشان في مقابل بعضهما وكان أبو سفيان يحث مقاتليه بالاستعانة بالأصنام والنساء الجميلات في حين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعين باسم الله ورحمته لأجل حث المسلمين على الدفاع وكانت أصوات التكبير تزلزل المنطقة التي امتلأت حينها بأصوات المغنيات.
في البدء استطاع المسلمون أن يتفوقوا على قريش بشن هجوم عنيف وأرجعوهم القهقرى، وكان خالد بن الوليد ينظر إلى هزيمة معسكره ويتحين الفرصة للانقضاض على المسلمين من خلف الجبل حيث وقفت مجموعة الرماة تمنعه من التقدم.
كان كل شيء يسير على ما يرام إلى أن حلت الفوضى المشؤومة التي قلبت كل الموازين، فقد تصور جمع من المسلمين الجدد أن جيش المشركين قد اندحر فاندفعوا للحصول على الغنائم تاركين مواقعهم الحساسة في أعلى الجبل. ولم تنفع نداءات مسؤولهم "عبد الله بن جبير" وتذكيره بأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يبق معه إلا عشرة من الرماة فقط.
وكانت نتيجة هذا العصيان أن تقدم "خالد بن الوليد" مع مئتين من رجاله إلى تلك النقطة الحساسة فقتلوا عبد الله بن جبير ومن صمد معه وحملوا على جيش المسلمين من الخلف. وعندما رأى المشركون المندحرون هذا التحول رجعوا إلى ميدان المعركة من جديد.
وفجأة رأى المسلمون السيوف تنهال عليهم من كل حدب، فاضطربوا وفي تلك اللحظات سقط "حمزة سيد الشهداء" شهيداً مع مجموعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ففر الباقون ولم يبق حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا عدد قليل، هنالك أبلى علي بن أبي طالب عليه السلام بلاءً حسناً حتى كسر سيفه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفه "ذو الفقار". وأصيب في جسمه بأكثر من 60 إصابة وفي ذلك الوقت أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا رسول الله هذه المواساة" فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنه مني وأنا منه..." فقال جبرئيل: "وأنا منكما". فسمعوا صوتاً في السماء: "لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي...".
* شائعة استشهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ذكر بعض المؤرخين أن أحد المشركين ظن أن رجلاً من المسلمين ويدعى مصعب هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضربه ضربة شديدة ثم صرخ بصوتٍ عالٍ: قسماً باللات والعزى قتل محمد!
ولكن هذه الشائعة انتهت لصالح المسلمين من جهتين: فبعد أن سمع المشركون هذا الخبر بدأوا يستعدون للرجوع. كيف لا وهم يحملون أشد الحقد تجاهه ولن يتركوا المنطقة إلا بعد قتله.
والعجيب أيضاً أن جيش قريش الذي بلغ عدة آلاف لم يرد البقاء ولو لليلة واحدة في ميدان المعركة للتحقق من الموضوع.
من جانب آخر قامت مجموعة من المسلمين بعد سماع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحمله وإحضاره إلى سفح الجبل ورغم جراحه الكثيرة ليبينوا للباقين أنه ما زال حياً مما جعل الذين فروا يرجعون ويجتمعون حوله (كانت هذه خطوة أخرى).
ورغم أن الهزيمة هنا قد استوعبت، ولكن المسلمين خرجوا من تلك المعركة بخسائر فادحة في الأرواح والأموال واستشهد منهم سبعون رجلاً وجرح كثيرون.
ولكن كما سوف نشاهد فقد استفادوا من هذه الهزيمة أعظم درس كان ضامناً للنصر في المعارك المستقبلية.
وبالفعل فإن ما حدث في معركة أحد كان لوحده كفيلاً بتصدع وانهيار أي جيش في العالم. ويليق هنا أن نبحث في سبب تجمع المسلمين بعد الهزيمة ورجوعهم بعد فرارهم إلى قائدهم. مما لا شك فيه أن شجاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفائقة كانت مؤثرة جداً في تحقيق نجاة المسلمين ووضع الأغلال عنهم.
والنقطة الأخرى التي تلفت الأنظار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في الوقت الذي تغير مجرى المعركة لصالح المشركين وتأكد انتصارهم بقي قائداً فريداً ثابتاً لم يتزلزل أبداً.
لم يبحث عن طريق لنجاة نفسه وإنما وقف كالجبل الراسخ ونادى بأعلى صوته "أنا رسول الله، أقدموا إلي".
وكذلك كانت حملة "حمراء الأسد" وملاحقة جيش مكة حيث ظهرت قدرة وتدبير نبي الإسلام في طرق الهجوم غير المباشر فقد كان للانتصار الذي حققه المشركون أثراً سلبياً على النهضة الإسلامية الفتية وأسقط من هيبتها في أعين الأعداء (اليهود والمنافقين) الذين كان يتحينون الفرص لأجل الانقضاض على المسلمين ولهذا قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعمل في غاية الروعة لأجل تثبيت أركان النهضة العظيمة.
ففي الوقت الذي كان مشركو مكة يعقدون مؤتمراً في "الروحاء" وصلهم خبر تحرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأجل ملاحقتهم ولأنهم علموا أن النبي في غاية الشجاعة وقد أقام معسكراً قربهم في حمراء الأسد ارتعدوا وفقدوا إرادتهم حتى بدا لهم عدم إمكانية مواجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان أكثرهم خوفاً أبو سفيان الذي اضطر لأن يرسل رسالة تهديد إلى المسلمين. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأبه بالرسالة وبقي معسكراً لمدة ثلاثة أيام كانوا في كل ليلة يوقدون ناراً عظيمة حتى تعلم قريش أن المسلمين ما زالوا ثابتين منتظرين يستعدون لشن هجوم في أي وقت.
وقد ظهر استعداد المسلمين في هذه المناورة السياسية للمواجهة العسكرية. وبعدها عاد المسلمون إلى المدينة مرفوعي الرأس مسجلين نصراً سياسياً وعسكرياً لهم.
يقول بعض المؤرخين بأن عدد القادة الذين استطاعوا أن يقلبوا هزيمة جيشهم إلى انتصار ويعيدوا تنظيم صفوفهم بعد التزلزل عبر التاريخ لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
وهكذا حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هيبة المسلمين وأبقى على معنوياتهم.
* تحليل عوامل هزيمة أحد كجسر للعبور إلى الانتصارات اللاحقة
تذكرت الآيات 139 و143 من سورة آل عمران تحليلاً دقيقاً لنتائج معركة أحد وتزيل العديد من الإبهامات عن أسباب الهزيمة وتجعل المسلمين في محك التجربة لتصنع للمستقبل جسراً للانتصار.
وأهم هذه الأمور:
1- الخطأ في الحسابات: ذلك الخطأ الذي وقع فيه العديد من المسلمين الجدد في فهم تعاليم الإسلام الذين تصوروا أن مجرد إظهار الإيمان كاف للانتصار.
وبتعبير آخر، لعل الكثيرين منهم تصوروا أن الله تعالى يمدهم في كل ميادين الحرب بالإمدادات الغيبية وليس عليهم أن يفعلوا أي شيء من ناحيتهم، ذاهلين عن أن سنة الله تجري في عوامل النصر الطبيعية.
وقد بينت واقعة أحد المؤلمة بقاء الإمدادات الغيبية وضرورة الاستعداد العسكري والحركة القتالية أيضاً. ولهذا لا ينبغي إهمال العوامل والأسباب العادية أبداً.
2- عدم التزام عناصر "عبد الله بن جبير" وعصيانهم لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأكيدة في عدم ترك النقطة الحساسة في جبل "العينين" ليعلموا أن الانضباط العسكري في ميدان الحرب له دور مصيري كبير.
3- حب الدنيا الذي كان متغلباً على قلوب العديد من المسلمين الجدد الذين فضلوا جمع الغنائم على ملاحقة العدو، فوضعوا سلاحهم أرضاً وركضوا باتجاه الغنائم، ليعلموا أن الجهاد في سبيل الله أغلى من كل شيء. وأن الذي يعمل لله لا ينبغي أن يفكر بالدنيا وما فيها.
4- الغرور والغفلة اللذان برزا بعد تحقيق النصر الأولي أديا إلى استصغار قوة العدو واستقلاله.
وكان لهذين الأمرين الدور الكبير في الهزيمة، وتعلم المسلمون درساً للمستقبل في عدم الركون إلى الانتصارات الظاهرية.
5- ترك مركز القيادة كان عاملاً آخر في الهزيمة. فإذا أصيب مركز القيادة فإن الهزيمة واقعة لا محالة، ولو لم يتحلق أمير المؤمنين عليه السلام ومجموعة من الأصحاب حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نقضى الأمر وانتهى الإسلام ولما بقي له أثر. والآن لنتأمل في القرآن الكريم كيف يحلل هزيمة أحد وكيف اعتبرها بأنها كانت ميداناً لإزالة الشوائب:
﴿إن يمسسكم قرح فقد مسّ القومَ قرحٌ مثلُه، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلَّمَ الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، والله لا يحب الظالمين وليمحَّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنَّة ولمَّا يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم...﴾.
انظروا إلى هذه الآيات كيف توقظ المسلمين وتحول تلك الهزيمة إلى مدرسة عظيمة لأجل بناء الذات وإزالة النقائص للتعرف على منطق الإسلام الصحيح وعدم الاعتماد على الشعارات الظاهرة أو استكثار الكم وإهمال الكيف.