علي زين الدين*
"كتاب اليهود" هو العنوان الذي اخترته للبحث التالي،
لماذا كتاب اليهود وليس التوراة؟! فحين نقول التوراة نعني الكتاب الذي أنزله تعالى
على نبيِّه موسى تماماً، كما أنزل الزبور والإنجيل والقرآن. كانت الكتب المذكورة -
سوى القرآن الكريم - قد حرّفت وطمست وحوّرت. لقد كانت عقيدة اليهود كشعب اختاره (الرب)
وفضَّله على الأمم وحكّمه في رقاب الخلائق وأباح له القتل والدمار والحرق والذبح
والسبي دون تفريق بين رجل أو امرأة، صغير أو كبير، بشر أو حجر أو حيوان، هذه
العقيدة قائمة على كتاب اختاره اليهود بأنفسهم فحرروا مضمونه ووضعوا القوانين
والأنظمة ونسجوا القصص التي تخدم مشاريعهم التي لم تتغير على مر التاريخ والعصور،
مستفيدين من الحضارات التي سبقت، وكل ما فعلوه هو تغيير في أسماء الشخصيات والزمان
والمكان، في كتاب اختلفت أسماؤه بين العهد القديم أو العهد الجديد أو التوراة، وفي
الحقيقة لم يكن سوى كتاب اليهود الذي ضمّنوه حقيقتهم ومشروعهم، بعد أن ألبسوها ثوب
المُنزَل وأنها مشيئة (الرب) ولا مناص من أن تتحقق.
* مملكة اليهود
ولا بد أن نشير إلى المشروع والنهج اليهودي الذي ادعى اليهود أن الرب بنفسه رسمه
لهذا الشعب ولا بد من تحقيقه، وهو ما سعوا إليه ووضعوا حدوده وآليات تطبيقه منذ
مئات السنين. "وكان بعد موت موسى عبد الرب أن كلم الرب يشوع بن نون خادم موسى قائلاً،
موسى عبدي قد مات، فالآن قم أعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا
معطيها لهم أي لبني إسرائيل، كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى،
من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات جميع أرض الحثيين وإلى البحر
الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم" (يشوع/ 1-5). إذا هذا هو المشروع بتمامه وكماله،
أي أن مملكة اليهود لا تقف عند تخوم كنعان والأرض التي من المفترض أنها لهم وأخرجوا
منها، بل هي بلاد الشرق من أقصاه إلى أدناه مرورا بأوسطه. فإذا كان هذا هو المشروع،
فماذا عساها تكون الوسيلة؟! وهنا لا يجب أن نتعجب بما فعله اليهود منذ 1948 في دير
ياسين والقسطل، مروراً بكل تلك المجازر حتى مجازر عدوان تموز ومجازر الرصاص المنسكب.
كل ذلك كان بأمر من (الرب)، - كما ادعوا - حيث لم يكن للشعب مناص من تنفيذ مشيئته.
* السّبي البابلي:
قبل الولوج إلى صلب الموضوع، من المهم أن نشير إلى أن معظم الدارسين لعلم الآثار
والمعطيات الأثرية يرجحون أن التوراة قد تم تحريرها وتدوين أحداثها أبان ما اصطلح
على تسميته بالسبي البابلي، أي بعد الحملة البابلية التي قام بها الملك نبوخذ نصر
على المدن الكنعانية عام 584 ق.م. والمعروف أنه كانت لدى الحكام البابليين
والآشوريين وغيرهم سياسات التغيير الديموغرافي(1) للمناطق التي يحتلونها بغية تثبيت
استعمارهم لها. فإذا لم يستطيعوا العثور على مرتزقة يمكن الاعتماد على ولائهم
المطلق، كانوا يعمدون إلى اقتلاع السكان المحليين وأخذهم عبيداً للدولة واستبدالهم
بجاليات تابعة للاستعمار، إما من مواطني الدولة المستعمرة، أو عبيداً مقتلعين من
مناطق أخرى. وقد دامت فترة السبي البابلي حتى العام 539 ق.م. إثر الحملة التي شنها
الملك الفارسي قورش، والتي انتصر فيها على البابليين، حيث سمح للمقتلعين بالعودة
إلى أرضهم.
* مجموعة قصص شعبية:
من هنا، وبالاعتماد على الدراسات والأبحاث الأركيولوجية(2) التي ظهرت في الربع
الأخير من القرن الماضي، التي تشير يوماً بعد يوم أن التوراة لا تعدو كونها مجموعة
من القصص الشعبية التي تنتمي إلى أصول شتى تختلف باختلاف الراوي أو الوسيلة التي
وصلت بها إلى المحرر التوراتي، الذي كان بدوره يدونها كما هي دون أي تغيير في
مجريات أحداثها، إلا أنه كان يحور أسماء شخصيات القصة والمسرح بما يتلاءم مع الغاية
الأساسية من تدوين قصص التوراة. فلا يمكن العثور على الترابط الزمني (الكرونولوجي)(3)
لكل التفاصيل القصصية الواردة في التوراة، كما أننا لا يمكن أن نجد أي رابط بين
التوراة وما يجري فيها وبين الوثائق التي عثر عليها في أرشيف الإمبراطوريات
والممالك التي عاصرت الأحداث التوراتية (ماري، تل العمارنة، أوغاريت أو الأرشيف
العسكري للحملات البابلية والأشورية وغيرها..) لا من حيث المكان ولا الزمان ولا حتى
أسماء الأشخاص (ملوك وحكام وأفراد وغيرها)، علماً أن ما تتحدث عنه التوراة من
بطولات وحروب، كان لا بد أن تتأثر بها تلك الممالك والأمم وتأتي على ذكرها بشكل أو
بآخر. فإسرائيل نفسها سواء كانت أمة عظيمة تابعة لنبي عظيم (كما ستصفها
التوراة لاحقاً) أو كانت أرضاً محددة، لم تظهر على مسرح الأحداث إلا في الربع الأول
من الألف الأول قبل الميلاد، وإسرائيل كأرض أو شعب ليست سوى مدينة السامرة التي
أسسها الملك "عُمري" عام 885 ق. م. وهذا موثق في أثر وحيد فريد يشير إلى "إسرائيل"،
فيمكن أن نقرأ نصاً (وهو الوحيد) عثر عليه على حجر تركه ملك موآب (منطقة تقع شرقي
الأردن) ويدعى "ميشع"، يذكر فيه انتصاره على ملك إسرائيل المدعو "عُمري"، يقول النص:
"أنا ميشع ملك موآب الديباني. أبي ملك على موآب ثلاثين سنة وأنا ملكت بعد أبي.
وبنيت هذا المرتفع للإله كموش لأنه أعانني على الملوك ونصرني على أعدائي. أما عمري
ملك إسرائيل فإنه أذل موآب أياماً كثيرة لأن كموش كان غاضباً على أرضه ثم خلفه ابنه
وقال سأذل موآب أيضاً في أيامي، ولكن كموش جعلني أراه مهزوماً أمامي وباد إسرائيل
باد إلى الأبد..".
* "شعْب" إسرائيل:
وقبل هذا التاريخ لا يمكن أن نعثر على ذكر لكلمة إسرائيل، سواء دلّت على شعب أو على
أرض أو مملكة أو قبيلة أو غير ذلك. ما أريد أن أشير إليه هنا، هو أنه لم يكن هناك
على مر التاريخ الذي تتحدث عنه التوراة شعب يدعى بشعب إسرائيل ولا أرض تدعى أرض
إسرائيل على السواء (خارج النص التوراتي طبعاً)، وكل ما في الأمر أن يهوه إله
الإسرائيليين كان قد أبرم عهداً مع (أبرام) إبراهيم حيث خرج من مدينة "حران" شمال
سوريا، بهذه الطريقة يحاول اليهود ترسيخ جذور تاريخية لوجودهم ولحقّهم في الأرض
والسيطرة، مستغلين حضارات الشعوب وإسقاط شخصياتهم على روايات نسجوها بهدف إيجاد
مكان لهم بين الأمم. فبعد أن توفي والد إبراهيم أو أبرام حسب الرواية التوراتية
والذي سيدعى فيما بعد بـ "إبراهيم"، ووالد إبراهيم حسب الرواية التوراتية يدعى "تارح"
وقد خرج من مدينة "أور" جنوب أرض الرافدين، يأمر الرب إبرام بأن يخرج من حران التي
استقر فيها والده وأن يتجه إلى أرض كنعان التي كان الله قد وعد بها تارح. "اذهب من
أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم
اسمك" (تكوين: 12/1-2). والمعروف أن شعوب الأمم السابقة كانت تتبنى تقاليد
وعادات الشعوب الأخرى، بل أنها أيضاً تتعامل وتتعاطى مع طقوسها الدينية بإيجابية
مطلقة، فنجد معابد لآلهة مصرية في جبيل وغيرها، كما "البعل" و"عشتار"، خلال حكم
سليمان (1000 ق.م.)، ولهذه الظاهرة أسباب، أهمها: لقد كانت دائماً الشعوب التابعة
هي أذلّ وأحطّ من تلك المتبعة. ولهذا الذل أكثر من اسم، فمنها الاقتصادي، ومنها
السياسي، ومنها الجغرافي بحكم الجوار، ومنها الديني بمعنى أن مطلق إنسان يتعرف على
ديانة أو مذهب أسمى وأرفع مما هو عليه، فلا مناص له من إتباعه وليس الدافع دائماً
يكون اقتناعاً، ففي غالب الأحيان يكون من أجل تسهيل المصالح كالتجارة (علاقة "حيرام"
ملك صور مع سليمان وتطور العلاقة فيما بعد إلى المصاهرة). أو تكون للتجارة والحماية
معاً، كالعلاقة التي ربطت جبيل بالإمبراطورية المصرية.
* اقتباس أمجاد الاخرين:
والسبب الأهم في كل تلك الأسباب هو التغني بأمجاد الآخرين، فإذا ما وجدت جماعة من
الناس نفسها منبوذة ومجردة من كل القيم الإنسانية والأخلاقية، فإنها تتعلق - وعند
أقرب فرصة - بأول بارقة تلوح لها، فتنسبها إلى نفسها وتتغنى بها وتروّج لها.
وكأمثلة بسيطة على ما نقول يمكن أن نعرضها من خلال ما توصل إليه علم المسكوكات
Numismatique وحده، نجد الحقائق التالية: فمثلاً عدد كبير من الرموز المسيحية
الموجودة على الميداليات والأيقونات مأخوذة من أشكال ورموز لأساطير قديمة هي ذات
أمجاد في الغالب، كهرمى وحورس وهرقل. وحتى أن الحاكم الأموي مروان ظهر على بعض
المسكوكات على شكل "هرقل" إلى أن ارتفعت الأصوات التي تحرم ذلك. وهذا تماماً ما حصل
مع القبائل الكنعانية التي سكنت مملكتي يهوذا والسامرة، أي أنهم كوّنوا لأنفسهم
تاريخاً وأمجاداً على حساب تاريخ وأمجاد وتضحيات الشعوب الأخرى، وهذا قمة الوصولية
والتسلق(**).
مصادر يمكن الرجوع إليها:
• القرآن الكريم.
• العهد القديم، المطبعة الأمريكية – بيروت 1901.
• فراس السواح، آرام دمشق وإسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي، دار علاء الدين –
سوريا 1995.
* دكتوراه في الفنون والآثار.
(1) الديمغرافيا: علم يتناول دراسة المجتمعات البشرية من حيث خصائصها العامة وبناها
وتطورها ولا سيما من النواحي الكمية.
(2) الأركيولوجيا: اقتفاء آثار الأجداد.
(3) الكرونولوجي: الكرونولوجيا ذلك الجزء من البحث التاريخي الذي يتبع هدف.