هيئة التحرير
إنّها عهد المؤمن، عهدٌ يعهده إلى غيره؛ ليصل ما بعد وفاته بأيّام حيّاته، يعهد بأن
تؤدّى عنه طاعات أو حقوق أو بأنْ يُلتزم بما رغّب فيه الله سبحانه، بل ويعهد بكلّ
خير. إنّها وصيّة المؤمن، يوصي من أحبّ بما أحبّ، وبكلّ ما هو حقّ. عن الوصيّة
وأهمّيّتها، وتأثيرها الأخلاقيّ، ودورها في بثّ الوعي وتحديد معالم الطريق ورسم
الأولويّات، كان هذا المقال.
* الوصيّة حقّ
الوصيّة بمعنى العهد؛ فمَن أوصى غيره بشيء فقد عَهِد إليه، وجعله وصيَّه، وقد تكون
من وصى يصي إذا وصل الشيء بغيره؛ لأنّ "الموصي يصل تصرّفه بعد الموت بما قبله"(1).
وقد حثّ القرآن الكريم -في آيات عدّة- على كتابتها، واعتبرها حقّاً على كلّ تقيّ؛
كما في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 180)؛
لأنّ همّ المؤمن أن يلقى ربّه وقد أدّى ما عليه، دون أن تبقى ذمّته مشغولة بعبادةٍ
أو حقٍّ للآخرين.
وقد عبّرت هذه الآية عن المال بالخير؛ ليكون حلالاً، وبالمعروف لتكون الوصيّة
موافقةً للعقل، مراعيةً للعدالة والحقّ(2).
كما رُوي أنّ: "مَن مات بغير وصيّة، مات ميتة جاهليّة"(3)، و"الوصيّة حقّ
على كلّ مسلم"(4)، وأنّه "لا ينبغي أن يبيت الإنسان إلّا ووصيّته تحت رأسه"، و"مَن
لم يُحسن وصيّته عند الموت كان نقصاً في مروءته وعقله"(5).
ولأهميّة الوصيّة، يردّ الله سبحانه سمع المؤمن وبصره وعقله قبل الموت، كما ورد من
أنّ رجلاً قال للإمام الصادق عليه السلام: إنّي خرجت إلى مكّة فصحبني رجل، وكان
زميلي، فلمّا أن كان في بعض الطريق مرض وثقل ثقلاً شديداً، فكنت أقوم عليه، ثمّ
أفاق حتّى لم يكن عندي به بأس، فلمّا أن كان اليوم الذي مات فيه، أفاق، فمات في ذلك
اليوم، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "ما من ميت تحضره الوفاة إلّا ردّ الله
عزّ وجلّ عليه من سمعه وبصره وعقله للوصيّة"(6).
نعم، تصل الوصيّة إلى حدّ الوجوب، فيما لو تعلّقت بودائع وأمانات الآخرين، أو حقوق
للناس أو لله تعالى يجب تأديتها.
* أنواع الوصيّة
لا شكّ في أنّ ثمّة أنواعاً للوصيّة، بحسب موضوعها والحاجة إليها. وقد يكون للموصيّ
وصايا عدّة، منها:
1- الوصيّة الشرعيّة: التي تختصّ بذكره الواجبات والحقوق التي عليه.
2- الوصيّة المعنويّة (التربويّة/الأخلاقيّة): وقد اشتهرت في التراث الإسلاميّ بين
الآباء وأبنائهم، كوصيّة أمير المؤمنين عليه السلام للإمام الحسن عليه السلام،
ومنها ووصيّة نبيّي الله إبراهيم ويعقوب عليهما السلام
لأبنائهما: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ
وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 132)، وكما في وصايا لقمان
لابنه. فالإنسان مسؤولٌ عن مستقبل أبنائه، وعليه أن يهتمّ بمستقبلهم المعنويّ قبل
المادّيّ، وإنّ رمز الفوز والنجاة يتلخّص بالتسليم لربّ العالمين(7).
* مضمون الوصيّة المعنويّة
بعد مراجعة عامّة للوصايا المعنويّة في النصوص الإسلاميّة، قد نلاحظ جملة من
العناوين التي تشكّل أولويّات الموصين، منها:
1- الإيمان بالله وبرسوله: على رأس الوصايا، جاءت الوصيّة بالإيمان الذي
بدونه لا يبقى للإنسان نور يهتدي به، حيث أوصى بذلك أمير المؤمنين عليه السلام
بقوله: "وصيّتي لكم: أن لا تشركوا بالله شيئاً، ومحمّد صلى الله عليه وآله وسلم
فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودَين، وأوقدوا هذين المصباحَين"(8).
2- التمسّك بالدين والإسلام: إنّ التمسّك بالإسلام طريق كمال الإنسان وقربه
من الله سبحانه، والوصيّة به توقظ الإنسان من غفلته، إن تعرّض للتزلزل والسقوط. ورد
في وصيّة الإمام عليّ عليه السلام للإمام الحسن عليه السلام: "إنّي أوصيك يا حسن،
وجميع ولدي وأهل بيتي، ومن بلغه كتابي من المؤمنين: بتقوى الله ربّكم، ولا تموتنّ
إلا وأنتم مسلمون"(9).
3- طاعة الإمام: أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين حضرته الوفاة، كما
عن إمامنا الكاظم عليه السلام: "أيّها النّاس الدّعامة: دعامة الإسلام، وذلك
قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾. فالعمل الصّالح طاعة الإمام وليّ الأمر
والتمسّك بحبله، أيّها النّاس! أفهمتم؟ الله الله في أهل بيتي، مصابيح الظّلم،
ومعادن العلم (......)، ألا هل بلّغت معاشر الأنصار؟"(10).
4- أداء الفرائض: تقع الوصيّة بأداء الفرائض في درجة الأولويّات؛ لأنّ
الوصيّة دعوة خاصّة إلى السير على طريق الموصي نفسه، وفيها تذكير بطاعة الله، وقضاء
الذمّة والعهود، والفوز بطاعة الله قبل الموت. ومن أهمّ الفرائض الصلاة مثلاً، فقد
جاء عن أبي بصير قال: دخلت على أمّ حميدة أُعزّيها بأبي عبد الله عليه السلام (...)
قالت: يا أبا محمّد، لو رأيت أبا عبد الله عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه، ثمّ
قال: "اجمعوا كلّ من بيني وبينه قرابة". (...) فنظر إليهم ثمّ قال: "إنّ
شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة"(11).
5- الصبر على الحقّ: كثيراً ما يُختبر المؤمن في إيمانه في مواقف الثبات على
الحقّ رغم المرارة. يقول الإمام الباقر عليه السلام: "لمّا حضرت أبي علي بن الحسين
عليهما السلام الوفاة، ضمّني إلى صدره، وقال: يا بُنيّ،
أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه أوصاه به، يا بُنيّ:
اصبر على الحقّ وإن كان مُرّاً"(12).
6- الإعراض عن الدنيا: لمّا كانت الدنيا متزيّنةً لأهلها ومتلوّنة، كان
الوقوع في حبّها سهلاً، لكنّه مهلكٌ، فكان من وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام
لولدَيه الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام -لمّا
ضربه ابن ملجم-: "أُوصيكما بتقوى الله، وألّا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا
تأسفا على شيء منها زُوِي عنكما"(13).
7- إصلاح ذات البين: وفيما وصّى به أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّي
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة
والصوم"(14).
8- بثّ الوعي والبصيرة: الوعي والبصيرة من أهمّ عناصر شخصيّة المؤمن التقيّ،
في اكتسابه الكمالات، وتحصينه من الموبقات النفسيّة، ومن أهمّ الأسلحة في مواجهة
الاستكبار والمستكبرين، فمن الضروري الوصية بهما. وقد وردت نصوص كثيرة في التوصية
بهما. فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "العامل على غير بصيرة كالسائر
على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلّا بعداً"(15).
9- نقل التجربة: تشكّل تجارب الإنسان مصدراً مهمّاً من مصادر المعرفة، بحيث
-إن راعاها- لا يقع في أخطاء سالفيه، وتساهم في تكوين النظرة الثاقبة إلى الأمور.
قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيّته لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "أيّ
بُنيّ، إنّي وإن لم أكن قد عُمِّرتُ عُمر من قبلي، فقد نظرتُ في أعمالهم وفكّرت في
أخبارهم، وسرتُ في آثارهم، حتّى عُدت كأحدهم، بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد
عُمِّرتُ مع أوّلهم إلى آخرهم (...) فاستخلصتُ لك من كلّ أمرٍ نخيله"(16).
* أيّها المؤمن: اعهد عهدك
ينبغي للمؤمن، وخصوصاً المجاهد، الذي يقتحم غمار الموت، أن يهيّئ وصيّته ويُحسنها.
ومن الجيّد أن تتضمّن وصيّته العناوين الآتية:
1- الوصيّة بما اشتغلت به ذمّته من حقوق لله وللناس.
2- الوصيّة بما يُحبّ أن يُهدى من الأعمال المندوبة للميّت، ولا يشقّ على أهله بها.
3- الوصيّة لمن يعنيه بتقوى الله.
4- الوصيّة بالاهتمام بالتمهيد والطاعة للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.
5- الوصيّــة بالتــزام الخـــطّ والنهج.
6- الوصيّة بطاعة القائد دام ظله.
7- الوصيّة للأب، والأم، والزوجة، والأولاد، والإخوة والأخوات وأصحاب الطريق والخطّ،
بما يعني كلّ منهم، وبحسب ما يعرف أنّهم سيحتاجون تلك الكلمات بعد رحيله عنهم،
خاصّة الأبناء.
8- الوصيّة بنقل تجربته إن كان من المجاهدين، وبركات الجهاد عليه، ممّا له أثر
تربويّ في مَن بعده.
9- التوصية بما يلفته من ابتلاءات أهله ومجتمعه من قضايا شغلت باله وهمّه، فكلماته
تبقى خالدة مؤثّرة.
* بادر في حياتك
نجد غالباً أنّ بعض ما نوصي به، يمكن قضاؤه والعمل به حال الحياة، فلِم التأخير؟
فبادر في حياتك، واحرص على أداء ما يمكنك أداؤه، ولا تُثقل على غيرك به. واجعل من
حياتك وصيّة حيّة، قبل أن تكتب وصيّتك وتعهد عهدك، والأهمّ، ما وصّى به الأمير عليه
السلام: "يا بَنيّ، عاشِروا الناس عِشرةً إن غبتم حنّوا إليكم، وإن فُقدتم بكَوا
عليكم"(17).
1- الدروس الشرعيّة، الشهيد الأوّل، ج 2، ص 295.
2- انظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيرازيّ، ج 1، ص 512.
3- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 19، ص 259.
4- تهذيب الأحكام، الطوسيّ، ج 9، ص 172.
5- الكافي، الكلينيّ، ج 7، ص 2.
6- (م.ن)، ص 3.
7- انظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، (م.س)، ج 1، ص 388.
8- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج 2، ص 33.
9- مقاتل الطالبيّين، أبو الفرج الأصفهانيّ، ص 24.
10- بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 22، ص477.
11-الأمالي، الصدوق، ص 572.
12- الكافي، (م.س)، ج 7، ص 2.
13- نهج البلاغة، (م.س)، ج 3، ص 76.
14- (م.ن).
15- الكافي، (م.س)، ج1، ص43.
16- نهج البلاغة، (م.س)، ج 3، ص 76.
17-الأمالي، الطوسيّ، ص595.