ينهمك الوالد في عمله، والأم في واجباتها المنزليّة فيما
يكبر الأبناء. فللعائلة متطلباتها الكثيرة. وفي سنِّ المراهقة قد يتعرَّف الابن
المراهق إلى شاب يافع، يكون بالنسبة له نموذجاً للإنسان المتحرِّر الذي يفعل ما
يشاء وقت ما يشاء، وإذا أُعجب بشخصيَّته ومشى بصحبته، تنقلب حياته رأساً على عقب
فيكون بالنسبة إليه القدوة والأسوة وتسير حياته إلى ما لا تحمد عقباه.
واقع يواجه
أبناءنا وإن بصور مختلفة، وإن لم يشعروا أنفسهم بذلك. فافتقاد وغياب القدوة
النموذجية داخل بعض الأسر أمر ينذر بالخطر الشديد خاصة عندما يكبر الأولاد دون
تعلّم الصواب من الخطأ فيصبح من السهل عليهم سلوك طريق السوء. من هنا كانت الحاجة
ماسّة إلى وجود ما يسمّى بالقدوة الصالحة داخل الأسرة أو بالنسبة لها، كونها تحدِّد
معالم شخصيَّة الطفل وتغرس فيه المعايير والقيم الدينيّة والأخلاقيّة التي يستطيع
من خلالها الحكم على مجمل الأمور على أن تتمثَّل تلك القيم في سلوك الأهل أنفسهم مع
الأولاد. وفيما يلي عرض لآراء عددٍ من الأشخاص حول مفهومهم للقدوة وأهميتها في حياة
الإنسان.
* لا حاجة للقدوة في حياتنا
سمر. ع: (20 سنة، طالبة جامعية):
"ليس عندي قدوة في حياتي لأنَّه ليس من الضروري أن يكون للإنسان قدوة. فأهم شيء أن
يبني الإنسان نفسه على أسس جيدة، حينها لن يحتاج إلى الاقتداء بأحد". ولسمر تعريفها
الخاص للقدوة، تقول: "القدوة هي "الأنا" التي سوف أحققها وأبنيها بذاتي وأفعالي ومن
أخطائي وتجاربي في الحياة".
* القدوة حافز لتحقيق الأهداف
محمد. ع.(25 سنة، تاجر):
"قدوتي في الحياة السيّد علي الخامنئي لأنَّه مرجعي الدِّيني وهو متواضع وصادق كما
إنّه يتمتَّع بصفة القائد الحقيقي للأمة". وعن التطبيق العملي للصفات التي يحبّها
محمد في قدوته، يقول: "طبعاً لا أستطيع تطبيق كل الصفات التي تعجبني في قدوتي إلا
إنِّني أسير على نهجها في تفاصيل حياتي اليومية في معظم الأحكام الشرعية".
* آخذ ما يناسبني من القدوة
هنادي. س. (18 سنة، طالبة جامعية):
"قدوتي في الحياة والدي. اخترته لأنَّه ذكي، شخصيّته قويّة ويسيطر على انفعالاته".
شخصيَّة أخرى تعتبرها هنادي نموذجاً: "السيِّد حسن نصر الله". أما عن بُعد المسافة
بين هنادي وبين نهج قدوتها كونها غير محجَّبة أجابت: "إنَّ الإنسان لا يتصرَّف
كقدوته طبق الأصل، فهناك دائماً اختلاف في التفكير بين إنسان وآخر. فأنا آخذ من
القدوة الأمور التي أحبها وتعجبني والتي تناسبني وأقتنع بها فقط".
* قدوتي السيدة الزهراء، ولكن..
سوسن. ع. (42 سنة، ربة منزل وأم لولدين):
"ليس لديّ قدوة في الحياة. إنما
أعتبر السيدة الزهراء عليها السلام قدوة لكل البشر.
ليس المهم برأيي أن أرتدي الحجاب كالذي نراه في الشارع هذه الأيام، فكثير من
المحجبات يقلن إن قدوتهن السيدة فاطمة والسيدة زينب عليها السلام وهن غير ملتزمات
بالحجاب الشرعي على الإطلاق لذلك أفضّل أن أكون بلا قدوة على أن أكون مثلهن".
* قدوة على الموضة
سلام. ن. (20 عاماً، طالبة معهد):
"لا أحد قدوتي في حجابي وأسلوب حياتي. فأنا أتبع الموضة من خلال ما أراه على
الفضائيات وفي الأسواق التجارية. المهم أن أكون على الموضة".
* قدوتي شخصيتي
سامر. س. (22 سنة، طالب):
"أسلوب حياتي ينبع من شخصيتي، فأنا لا أقتدي بأحد معيَّن". هذا ما عبَّر عنه سامر
الذي قال إنَّ قَصَّة شعره وطريقة لبسه يأخذها من خلال الصور التي يراها عند مزيِّن
الشعر، وأضاف: "لا تهمني غرابة أو موديل قصَّة الشعر لكن المهم أن تكون على الموضة
وأن تليق بي، فأنا أهتمُّ كثيراً بمظهري وأحبُّ أن أكون متميِّزاً".
* القدوة في الإسلام
للوقوف على حيثيَّة تلك الآراء كان لنا لقاء مع سماحة السيد علي مرتضى الذي حدَّثنا
عن أهميَّة وجود القدوة وتأثيرها في حياة الإنسان.
- كيف يمكن تعريف القدوة؟ وهل هي ضرورية في حياة الإنسان؟
كثيراً ما يحصل الاشتباه في تعيين القدوة أو المثل الأعلى، أو يعتبر بعضهم أنّه لا
ضرورة لوجود المثل الأعلى في الحياة، أو إذا كان ولا بدّ فهو لا يرى لنفسه قدوة في
هذه الظروف المحيطة. كل هذه البناءات أو الاعتقادات ناشئة عن عدم التحديد الدقيق
لمعنى القدوة، وإلا فسوف يرى كلُّ إنسان أنّه قد حدّد مثله الأعلى وهو يسير على
نهجه ولو من حيث لا يدري، لأنَّ القدوة أو المثل الأعلى يمثّل وجهة نظر الإنسان نحو
الحياة والكون، هو ذلك الهدف الذي يسعى كلُّ إنسان لتحقيقه والوصول إليه، لكن هذا
الهدف يتمثَّل في كيان الإنسان ويعشش في وجدانه، ليشكِّل نقطة البدء في حياته وبناء
المحتوى الداخلي له، وهو - على حدّ تعبير الفلاسفة – يشكل العلّة الغائية له
الموجودة في تصوّره فعلاً ويسعى لتحقيقها في الخارج عملاً.
- هل القدوة موجودة داخل كلِّ إنسان؟ وما مدى تأثيرها في
حياته؟
قد يسعى الإنسان ليصنع من نفسه مهندساً أو دكتوراً أو عالماً أو... فهو بهذه الحالة
قد رسم لنفسه مثلاً أعلى يسعى ليقتدي به، ويتمثَّل به، ولو من دون أن يحدِّد شخصاً
معيّناً، ولذا يُعدّ هذا الإنسان طموحاً وهادفاً في الحياة، قد رسم طريقاً لمستقبله،
وهو يخطو باتِّجاه الوصول. لذلك لا يوجد إنسان في الحياة لا يكمن في داخله المثل
الأعلى. نعم قد يكون مطّلعاً عليه، وقد يكون أحياناً ساكناً في اللاوعي عنده -على
حدّ تعبير بعضهم. من هنا كان من الضروري للإنسان في هذه الحياة أن يتعرّف إلى مثله
الأعلى، لما له من الدور الأساس في بناء شخصيَّته ومستقبله في الدنيا والآخرة أيضاً،
فلا يمكن أبداً فصل المثل الأعلى والقدوة عن الرؤية الكونية للإنسان، وعن نظرته
تجاه العالم، عن الله والنبوّة والمعاد والآخرة والحساب والعقاب، وعن بعض الأسئلة
الضروريّة من هدفية خلق الإنسان، وهل الحياة هي هذه الدنيا أم تتعدّاها إلى الآخرة.
لذلك نجد القرآن الكريم عبّر عن الهوى والميل إلى الدنيا بالإله المعبود حيث قال عزّ
اسمه:
﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ﴾
(الفرقان:43). فإنّ هذا الهوى يتصاعد لدى الإنسان ويقوى ليشكل له المثل
الأعلى، فيغشي بصره، فلا يعود يرى في الدنيا غيره، فيسعى لتحقيق كل رغباته، وهذا
ينعكس على حياته في الدنيا ومصيره في الآخرة.
- ما هو رأيكم بمن يتَّخذ مما يسمى "الموضة" قدوة وأسلوب حياة؟ وما هي حقيقة أو
خلفية خياراتهم هذه؟
كثير من الناس يعيش حالة التأثّر بالمجتمع الذي يعيش فيه، ويكون منفعلاً ومتأثِّراً
بواقعه ومن حوله، ولا يكون فاعلاً مؤثِّراً، فمثلاً ذلك الشخص القوي يواكب الموضة
تحت عنوان أنّه عصري. ألم يدمج هذا الشخص بين مفهومين لا علاقة لأحدهما بالآخر؟
الموضة شيء يتعلّق باللباس الدارج عند مجتمع ما، ومواكبة العصر تعني التطوّر والرقي
ومتابعة متطلِّبات وتقنيّات العصر، فما العلاقة بينهما يا ترى؟!!! إنّها مبرّرات
لأمور نفسيّة تكمن في داخل هذا الشخص، لا يجد الإجابة المقنعة عنها، فيعزو ذلك إلى
العصرنة والرقي، وفي الحقيقة إنّه يتّبع المجتمع الذي يعيش فيه، ويواكبه في اللباس
والزيِّ والعادات من دون أن يكلّف نفسه عناء السؤال: هل هذا اللباس حق ومطلوب
ومقبول؟ أم أنّ مجرّد الاتباع للموضة والزي الرائج ومواكبتهما هو الحق وهو المطلوب؟؟
يقول سبحانه وتعالى في وصف هذه الحالة النفسيّة الكامنة
﴿قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا
أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً
وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾
(البقرة:170)،
﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا
عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾
(الزخرف:22). فتحديد الإنسان لمستقبله أو لشخصيّته يجب أن ينبع من قناعة
ذاتيّة، لا من انغماس في أجواء المحيط والعادات، وما أكثر من اختار طريق حياته
العلميَّة أو العمليَّة تأثّراً بجوٍّ كان سائداً إبَّان لحظات تحديد مصيره
واختياره. فلفترة من الزمن بدأ الشباب بالاتجاه لدراسة الطبّ، لمَّا كان هناك جوّ
سائد يدعو لذلك، وبعدها بدأوا بالتوجه للتخصص في الكومبيوتر لرواج هذه الآلة و...
من دون دراسة للأولويات، أو تحديد الحاجات، حتّى وصل بعضهم إلى مرحلة لا يجد لنفسه
فيها عملاً.
- من هي القدوة المثلى للإنسان وكيف يقتدي بها عملياً؟
إنَّ رؤية الإنسان تجاه العالم هي التي تحدّد له مثله الأعلى، فالقدوة والمثل
الأعلى الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ
كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾
(الانشقاق:6). فالله هو الموجود الكامل الذي يتحلى بالكمال المطلق، والإنسان
يسعى للوصول إليه والتحلي بصفاته وأسمائه. هذه الصفات والأسماء نجدها متجليّة
بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله
﴿لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ﴾
(الأحزاب: 21) وبأهل بيته الأطهارعليهم السلام. فهم القدوة في الصفات
والأفعال والعفة وكل شيء في الحياة، لأنّهم هم الوحيدون الذين يوصلوننا إلى الله
بأفضل طريقة. في الختام علينا أن نستمع إلى كلامهم، ونرى تصرّفاتهم، ونقرأ في
سيرتهم خصالهم وأعمالهم، لنشكل من خلال ذلك رؤيتنا للحياة وللكون وللآخرة، وهذا
دافع كبير للاقتداء بهم عملياً والسير على نهجهم. قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ
أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ *
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾
(الزمر: 17-18).