الشيخ محمد توفيق المقداد
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم
﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا...﴾
(النور: 30-31). ففي هاتين الآيتين يحدِّد الإسلام مفهومه إلى النظر أي "نظر المرأة
إلى الرجل" و"نظر الرجل إلى المرأة" حيث نرى أنَّ الإسلام يطلب من المؤمنين به
والمؤمنات أن يغضّوا النظر عمَّا لا يحل لهم النظر إليه من الجانبين، ما عدا
الأصناف التي أجازها الله في كتابه وهم أرحام المرأة وأرحام الرجل كالأم والأخت
والابنة والزوجة والجدة وكذلك الأب والأخ والابن والزوج والجد. والمراد بالأرحام
هؤلاء هم الذين لا يجوز الزواج بهم لا من جانب المرأة ولا من جانب الرجل أيضاً بسبب
علاقات النسب أو السبب كالمصاهرة أو الرضاع بالشروط المذكورة في الفقه.
* العين زناها النظر
وحكمة تحريم النظر أنَّه قد يكون الخطوة الأولى السلبيَّة التي قد تجر إلى ما هو
أكثر منها تحريماً وإثماً بحسب موازين المجتمع الملتزم والمنضبط، ولذا ورد في
الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "لكلِّ عضو حظّ من الزنا، فالعين زناها
النظر"(1)، وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله: "من ملأ عينه من حرام ملأ الله
عينه يوم القيامة من النّار إلاّ أن يتوب ويرجع"(2)، وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً:
"اشتدّ غضب الله على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها"(3)،
وعن النبي صلى الله عليه وآله أيضاً أنه قال: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن
تركها خوفاً من الله أعطاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه"(4). وفي عصرنا الحاضر
فإنَّ التقدم العلمي الكبير أوجد الكثير من الآلات والوسائل التي تنقل الصور بمختلف
أنواعها المحللة والمحرمة والجامدة منها والمتحركة سواء في الإعلام المرئي أو
الإعلام المكتوب كما في الجرائد والمجلات والكتب. والنظر قد يكون بشكل مباشر أي إلى
نفس الشخص سواء بالمعاينة أو عبر النقل المباشر عبر الإعلام المرئي، وتارة يكون
النظر إلى الصورة الجامدة أو إلى الصورة المتحركة ولكن لا بطريق النقل المباشر بل
المسجَّل سابقاً والمعروض لاحقاً. ولكل من النوعين أحكامه التي سوف نذكرها عن طريق
الأحكام الشرعية التي تحدد الموقف الشرعي من كلا النوعين.
* أحكام شرعية
أ- حكم النظر إلى الأجنبي
وقد ورد سؤال لسماحة القائد الإمام الخامنئي يطلب فيه السائل الجواب عن النظر إلى
صورة المرأة السافرة الأجنبية، أو صورة المرأة في التلفزيون، وهل هناك فرق بين
المسلمة وغيرها؟ وهل هناك فرق بين البثِّ المباشر وغير المباشر؟ وقد أجاب سماحته
بما يلي: "النظر إلى صورة المرأة الأجنبية ليس حكمه حكم النظر إلى نفس الأجنبية،
فلا بأس فيه، إلا مع الريبة وخوف الوقوع في الفتنة، أو كانت الصورة لمسلمة يعرفها
الناظر، والأحوط وجوباً عدم النظر إلى صورة الأجنبية المعروضة في التلفزيون بالبث
المباشر، وأما في البث غير المباشر لما يعرض في التلفزيون فلا بأس بالنظر إليها من
دون ريبة ولا افتتان"(5). ثمَّ يتطوَّر السؤال ليصل إلى حد الاستفهام عن جواز النظر
إلى صور النساء العاريات أو شبه العاريات المجهولات اللواتي لا يعرفهن في الأفلام
السينمائية وغيرها، فيأتي الجواب من سماحته: "النظر إلى الأفلام والصور ليس حكمه
حكم النظر إلى الأجنبي، ولا مانع منه شرعاً إذا لم يكن بشهوة وريبة ولم تترتب على
ذلك مفسدة، ولكن نظراً إلى أنَّ مشاهدة الصور الخلاعية المثيرة للشهوة لا تنفك
غالباً عن النظر بشهوة، ولذلك تكون مقدِّمة لارتكاب الذنب فهي حرام"(6).
ب- حكم النظر للمتزوِّج
وبعض الناس ممن يريدون النظر إلى المحرَّم من الصور والأفلام قد يتذرَّع بأنَّه
إنسان متزوج، وأنَّه يريد النظر إليها لأنها تثير عنده الشهوة وتساعده على المقاربة
الجنسية لزوجته، فيجيبه سماحته: "لو كان النظر بقصد إثارة الشهوة أو كان موجباً لها
لم يجز له ذلك"(7). وكذلك قد يبرِّر بعض المتزوجين بأنَّه يريد النظر إلى الأفلام
التي تظهر فيها المرأة الحامل، وكيف يمكن للزوج أن يقاربها جنسياً، ويدَّعي أن
النظر هو من باب التعلّم لا لإثارة الشهوة وما إلى ذلك، ويأتيه الجواب من سماحته
أيضاً: "لا تجوز مشاهدة مثل هذا النوع من الأفلام التي لا تنفكّ عن النظر المثير
للشهوة"(8).
ج- حرمة مشاهدة القنوات الفاسدة
ومن الواضح أنَّ التقدّم العلمي اليوم قد وصل إلى مرحلة بحيث يستطيع كل إنسان وهو
في بيته أن يلتقط قنوات تلفزيونية تُبَثُّ من خلال الأقمار الصناعية المنتشرة في
الفضاء، وهنا يسأل بعضهم عن جواز النظر إلى هذه القنوات، ويأتيه الجواب:
"البرامج
التي تُبثُّ بواسطة الأقمار الاصطناعية الغربية... بما أنَّها تتضمَّن تعليم
الأفكار الضالة وتزوير الحقائق وتحتوي على برامج اللهو والفساد، وتكون مما تسبِّب
مشاهدتها غالباً الضلال والوقوع في المفاسد والابتلاء بالمحرم، فلا يجوز التقاطها
ومشاهدتها"(9).
د- النظر إلى الصور المبتذلة
وبعضهم ممن يريدون النظر إلى الصور المبتذلة وهم من الشباب يدَّعون أنَّ نظرهم إلى
تلك الصور يُخمِد شهوتهم بعض الشيء بمعنى أنَّها تكون مانعاً لهم من الوقوع في
محرمات أكبر من النظر إلى تلك الصور، فهل هذا التبرير بجواز النظر مقبول؟ ويأتي
الجواب: "إذا كان النظر إلى الصور بريبة، أو كان يعلم أنَّه يؤدي إلى إثارة الشهوة
فهو حرام، وليس الامتناع بذلك عن الوقوع في حرام آخر مبرراً له للالتجاء إلى الفعل
الحرام شرعاً"(10). ومن المبرِّرات التي قد يدَّعيها بعضهم للنظر إلى هذه الصور
والأفلام المبتذلة أنَّها تكون حافزاً له على شهوته لأنَّه مصاب أو مريض ولا يقدر
على مقاربة زوجته إلا بمشاهدتها، وبدونها لا يستطيع أن يفعل شيئاً، والجواب عند
سماحته هو: "لا تجوز إثارة الشهوة الجنسية بواسطة مشاهدة أفلام الفيديو الجنسيَّة"(11).
هـ- تأجير الأفلام المبتذلة
ونصل إلى سؤال موجَّه إلى سماحة القائد حفظه الله عن حكم بيع وتأجير أفلام الفيديو
المبتذلة، وكذلك تأجير نفس آلة الفيديو لحضور تلك الأفلام بواسطتها، ويكون الجواب
هو: "إذا كانت الأفلام تحتوي على الصور الخلاعيَّة المثيرة للشهوة الموجبة للانحراف
والفساد، أو على الغناء، أو على الموسيقى المطربة اللهويَّة المتناسبة مع مجالس
اللهو والعصيان، فلا يجوز إنتاجها، ولا بيعها وشراؤها، ولا إجارتها، ولا إجارة
الفيديو للانتفاع بها في ذلك"(12).
و- مراقبة الإصدارات الإعلاميَّة
وبما أنَّ النظر إلى الصور والأفلام بمختلف أنواعها قد صار محل ابتلاء كلِّ الناس
وفي كلِّ أرجاء العالم، ومنه عالمنا الإسلامي الذي يستورد الكثير من هذه الأفلام
والصور التي تحتوي على الكثير من المفاسد، فإنَّ هذا الأمر يوجب قيام أشخاص بمراقبة
ومشاهدة كلِّ ذلك لحذف ما لا يتناسب مع ذوق المجتمع الإسلامي المتزن والملتزم،
ولحفظ سلوكيَّات الناس وأخلاقياتهم، فهل هذا العمل مسموح ومباح؟ وهنا يجيب القائد
حفظه الله تعالى: "لا مانع من المشاهدة والإصغاء والاستماع لموظفي المراقبة في حدِّ
ضرورة العمل في مقام أداء الوظيفة القانونية، مع الاحتراز عن قصد التلذذ والريبة،
ويجب أن يجعل الأشخاص المبتلون بمثل هذه الامتحانات تحت رعاية وتوجيه المسؤولين من
الناحية الفكريَّة والروحيَّة"(13).
ز- عمل الفنيين
ولا تقتصر حرمة النظر على الأفلام والصور فقط، بل تمتدُّ لتشمل عمل الفنيين الذين
يعرفون كيف يلتقطون المحطَّات التي تبث البرامج أو الصور المبتذلة وكذلك الأفلام،
فهل يجوز لهؤلاء أن يساعدوا الناس الذين يطلبون منهم ضبط الأجهزة الموجودة لديهم من
أجل التقاط تلك المحطّات وأخذ الأجرة على هذا العمل فضلاً عن بيعهم للزبائن القطع
التي تسهِّل عملية البحث عن المحطات المبتذلة؟ يجيب سماحته: "إذا كانت الاستفادة من
مثل هذا الجهاز في الحرام، كما هو الغالب، أو كان العامل الفني على علم ويقين بأنَّ
من يريد الحصول على ذلك يريد الاستفادة منه في الأمور المحرمة، فلا يجوز بيعه
وشراؤه، ولا تركيبه وتشغيله وإصلاحه وبيع قِطَعِهِ أيضاً"(14).
* الغرب مصدر الفساد والانحراف
بعد هذا العرض للاستفتاءات وأجوبتها نرى أنَّ الغالب عليها هو طابع الحرمة الشرعية،
وذلك لأنَّ أغلب الإنتاج للأفلام والصور يأتينا من عالم الغرب المتحلِّل من كلِّ
الضوابط والموازين الشرعية والأخلاقية ولا شغل لهؤلاء إلا ترويج الفساد والمحرمات
لتعتاد الناس على ذلك ويصبح الأمر عادياً جداً عندها فيسهل ساعتئذ على هؤلاء ارتكاب
المحرَّمات والوقوع في المفاسد والمحاذير الشرعية، فضلاً عن ترويج الثقافات الفاسدة
والعادات السيئة لتصبح مجتمعاتنا نسخة مقلِّدة للغرب في كلِّ ما هو عليه من فساد
وانحراف وضياع. لهذا كان لا بدَّ من الوقوف بوجه هذه الموجة من الأفلام والصور
المبتذلة والبرامج الفارغة من أيِّ هدف ومضمون سوى إثارة الشهوة لتشجيع الوقوع في
الحرام، بينما الإسلام يريد حماية المجتمع من مثل هذه المفاسد، لأنَّ ديننا يريد
للمسلمين أن يكونوا ملتزمين دينهم وأن يعملوا على تحقيق أهداف الدين الحنيف
المخالفة جداً لأهداف المنحرفين والساقطين والمروجين للثقافة الغربية الفاسدة.
* الإسلام يحمي إنسانية الإنسان
والرادع الوحيد هو الحكم الشرعي الذي يلتزمه المؤمنون، لأنَّهم يعلمون أنَّ مخالفة
الحكم الشرعي هي معصية لله وذنب يستحقون عليه العقاب، والرادع الثاني هو توضيح
حقيقة مثل هذه البرامج المبتذلة والصور الفاضحة التي تستغل جسد الإنسان بطريقة بشعة
جداً تتنافى مع إنسانية الإنسان والقيم والمُثُل والمبادئ التي ينبغي أن يحافظ
عليها ويحميها من أيِّ انحرافات تطرأ عليها، ولأنَّ الإنسان ذكراً كان أو أنثى إذا
لم يحفظ إنسانيته وما ترمز إليه سيكون كما قال الله تعالى:
﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ
هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾
(الفرقان:44). والإسلام لا
يُحرِّم على المسلم تحصيل ما يُشْبع رغباته الجنسية، لكن يريده أن يحصل عليها من
طرق الحلال التي تحفظ لكلٍّ من الرجل والمرأة قيمتهما الإنسانية، لأنَّ الإنسان لم
يخلقه الله من أجل نزوة أو شهوة عابرة، بل خلقه من أجل هدف عظيم وهو السير في خط "الطاعة
والعبودية"، ولذا عمل ديننا على إزالة كل العوائق والعقبات التي قد تحول بين
الإنسان وسيره في الخط الصحيح والسليم
(1) ميزان الحكمة، ج10، حديث 19974.
(2) ميزان الحكمة، ج10، حديث 19980.
(3) وسائل الشيعة، ج20، الحر العاملي، ص3232 ميزان الحكمة، ج4، حديث 3889.
(4) ميزان الحكمة، ج4، حديث 3889.
(5) أجوبة الاستفتاءات، ج2، المعاملات، باب الصور والأفلام، س96.
(6) نفس المصدر / س101/.
(7) نفس المصدر / س113/.
(8) نفس المصدر / س114/.
(9) نفس المصدر / س97/.
(10) نفس المصدر / س106/.
(11) نفس المصدر / س117/.
(12) نفس المصدر / س124/.
(13) نفس المصدر / س115/.
(14) أجوبة الاستفتاءات، ج2، المعاملات، باب الدِّش "الطبق"، س130.