للصدق في حياة الإنسان عامّة، والمؤمن خاصّة، مساحة أساسيّة لا يمكن تجاهلها. فلا
يمكن لإنسان يمتلك فطرة صافية أنْ يستسيغ الكذب أو يستحسنه، بل نفسه تتوق إلى
الصدق، باعتباره يطابق الحقّ الذي يصبو إليه من خلال عِلمه وعمَله.
وإنّ إحدى صفات الخالق تعالى أنّه صادق، وقد أُمرنا أن نتخلَّق بأخلاقه سبحانه.
وهذا سيّد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم أعظم المتخلّقين وأكملهم على يد
العناية الإلهيّة، الذي روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أدّبني ربّي فأحسن
تأديبي"(1)، يمتدحه الله تعالى على عظيم خلقه:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾؛ وكان أبرز صفاته قبل البعثة أنه
"الصادق الأمين"(2).
وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام الصدّيق الأكبر، والسيدة الزهراء عليها السلام
الصدّيقة الكبرى، وكذلك كان سائر الأئمة عليهم السلام صادقين صدّيقين، وكذلك كانت
مسيرة أنبياء الله ورسله، بل إن أتباع الأنبياء والأولياء هم الصادقون، وقد أمرنا
الله تعالى أن نكون معهم ونحذو حذوهم في صدق القول وصدق العمل.
ولهذا نشاهد تربيتهم لأصحابهم وأنصارهم على هذه الخصلة الطيّبة، فقد كان أبو ذر
الغفاري (رضوان الله تعالى عليه)، الصحابيّ المعروف والموالي المحبّ لأمير المؤمنين
عليه السلام، خير من جسّد هذه الصفة في حياته، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أنّه قال: "ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجةٍ أصدق من أبي
ذرّ"(3).
ويكفي الصدق فضلاً أنه يدّعيه مَن ليس مِن أهله، وربّما يحلف الكاذب أنّه صادق،
وينفُر من كذبه ويخشى من التسمية به.
وللصدق مسؤوليّته عند الصادقين، فهو أمانة يحملونها للحاضر والمستقبل، وذخرٌ
لآخرتهم، ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ
الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (المائدة: 119).
وهذا المسار الإلهيّ قد سلكه عبر التاريخ هؤلاء الصادقون، فأثمر صدقهم نوراً لمن
جاء بعدهم، على قاعدة: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ
بِصِدْقِهِمْ﴾ (الأحزاب: 24)، وترك آثاره الطيّبة على مصداقيّتهم، سواء
في نقل الحقيقة وإثباتها أو في تمييز أهلها وأتباعها.
واليوم، ما أحوجنا إلى هذه الخصلة الكريمة وأن نتمسك بها أكثر فأكثر، في زمن أصبح
الكذب مهنة يمتهنها بمهارة عالية أناس عديدون في مواقع خطيرة على المستوى التربويّ
والاجتماعيّ والسياسيّ.
فترسيخ قيمة الصدق هو أعظم رسالة يمكن أنْ يقدّمها أبوان لأولادهما داخل الأسرة،
وهو أنبل خُلق يمكن للمدارس أن تزرعه في ضمير الأطفال والمتعلّمين، وهو أفضل ما
تقدّمه الجامعات العلميّة لطلّابها لتخريج جيل يحمل المصداقيّة في العلم والسلوك،
وهو أجمل صفة يتحلّى بها الزعماء والقادة السياسيّون، وهو أشرف كلمة يوصلها الإعلام
إلى متابعيه لتبيان الحقيقة، إلى غير ذلك من مواطن الصدق التي ينشدها طالبوه على
اختلاف مشاربهم واتّجاهاتهم.
واللافت في بعض الآيات التي تحدّثت عن الصدق، أنّها تجعله من الأمور التي يُسأل
عنها أصحابها ويطالبون بها، قال سبحانه: ﴿لِيَسْأَلَ
الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ (الأحزاب: 8). فهناك مواطن للصدق ملزمة
لا يمكن التخلّي عن التصدّي فيها؛ لأنّ إخلاءها بمثابة فسح المجال للكذب أن يملأها،
وهو ما ينافي رسالة الصادقين، ما يعني أنّ الصدق مسؤولية لا بدّ من أن نكون على
قدرها. والحمد لله ربّ العالمين.
1- بحار الأنوار، المجلسي، ج 68، ص 382.
2- (م.ن)، ج 15، ص 384، وج 16، ص 41، وج 18، ص 168، وغير ذلك.
3- معاني الأخبار، الصدوق، ص 179.