﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة: 119). من النِّعم الإلهيّة على الإنسان
أنْ علّمه البيان، ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن: 3-4)؛
إذ البيان وسيلة للتواصل بين البشر، وإيصال المراد لكلّ منهم. وبما أنّ الإنسان وما
يملكه من قدراتٍ لا يمكنه الاطّلاع والتعرّف إلى كلّ ما يجري في هذه الحياة، كان لا
بدّ من أن يعتمد على قدرات أقرانه في تحصيل احتياجاته منها؛ فينظر بأعينهم، ويسمع
بآذانهم، ويستفيد من عقولهم... وهذا ما تقوم عليه حياة البشر كافّة. من هنا، كان
ممنوعاً على أيّ فرد أن يخون هذا الاعتماد؛ فيعطي أخاه معلوماتٍ خاطئةً تؤدّي به
إلى الخطأ في تنظيم حياته، واتّخاذ آراء ومواقف متعارضة مع أهدافه وغاياته.
* الصدق قيمة إنسانيّة
الصدق قيمة إنسانيّة فطريّة، وكمالٌ أجمع عليه كلّ المجتمعات والمدارس الفكريّة؛ إذ
لولاه لما صدق شيء عن شيء، ولما قبِل أحد عن أحد شيئاً. لذا، نرى في تاريخ
الإنسانيّة كلّ هذا المدح والثناء على أهل الصدق، والطعن والمذمّة على أهل الكذب.
* أهل الصدق:
1- الله سبحانه وتعالى: الصدق من الصفات الجماليّة لله تعالى، وقد بيّنها
تعالى بقوله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾
(النساء: 122)، وبقوله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللَّهِ حَدِيثًا﴾ (النساء: 87).
ومن الواضح أنّ الضعيف والناقص قد يحتاج إلى سدِّ نقصه ودفع الضرر عن نفسه بالكذب،
والله تعالى منزَّه عن ذلك. وفي عقيدتنا أنّ كلّ كمال نجده في الممكن، ومنه الصدق،
فالواجب واجد لهذا الكمال على نحو أعلى وأشرف، وهو الذي أعطى الممكنَ ذلك الكمال.
2- حُجَجُ الله وأولياؤه عليهم السلام: إنّ مَن يمثّل الحجّة الإلهيّة، ويدعو
الناس إلى الله، لا بدّ من أن يتحلّى بالصفات الكماليّة ، وإلّا كان داعياً إلى
خلاف الكمال. هذا، مضافاً إلى أنّ احتمال وقوع الكذب من الأنبياء عليهم السلام يحول
دون تصديق الإنسان بنبوّتهم وطاعتهم...
وفي القرآن الكريم عند الحديث عن الأنبياء عليهم السلام، لا يعبّر الله تعالى عنهم
بأنّهم أهل الصدق فقط، بل يستعمل صيغة المبالغة "الصدّيق"، فيقول تعالى في نبيِّنا
إبراهيم عليه السلام: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ (مريم: 41)، وفي نبيّنا
يوسف عليه السلام: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾
(يوسف: 46)، وهكذا في نبيّ الله إدريس عليه السلام. وهذا يدلّ على أنّ
الأنبياء حائزون أعلى درجات مَلَكة الصدق التي ينالها بنو البشر.
3- المؤمنون: إنّ المؤمن- وهو من اتّبع الأنبياء وآمن بتعاليم السماء- لا يمكن
له إلّا والتخلُّق بهذه الفضيلة حتّى يصبح شبيهاً بأسوته وقدوته. وهذا ما أمر الله
تعالى به بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة: 119)، فلا
يتصوّر مؤمن خارج دائرة الصدق وأهله. ومن لطيف ما تشير إليه هذه الآية الكريمة:
- أوّلاً: إنّ الصدق هو الأصل، وعلى الإنسان أن ينضوي تحت لوائه.
- ثانياً: إنّ على المؤمن أنْ يبقى مع أهل الصدق، وأن يعيش في مجتمع
الصادقين؛ إذ يُخاف عليه أن يخسر هذه الفضيلة بعد تلوّثه بمجتمعات الكذب؛ فإنّ
المرء على دين خليله.
- ثالثاً: تحتاج المحافظة على الصدق إلى تقوى وتحرُّز ومواجهة مع الشيطان،
﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ إذ من دون التقوى لا يمكن
التمسُّك بهذا الخُلُق العظيم.
* مصاديق الصدق
للصدق مصاديق كثيرة تشمل كلّ تفاصيل حياة الإنسان. فهو ليس محصوراً بالكلام فقط، بل
هو أعمّ من ذلك بكثير. فاللّازم على المؤمن أن يملك الصدق بكلّ مصاديقه، فلو تحلّى
ببعضها وترك بعضها الآخر تسرّب ذلك إلى ما يملكه من صدق فيفسده. ومن أنواع الصدق:
1- الصدق في الكلام: وهو من أوضح مصاديقه، وبه قوام المجتمعات وانتظام
الحياة. وقد نادى بذلك البشر بمختلف توجُّهاتهم ومعتقداتهم، حتّى الأديان المبنيّة
على الكذب، كانت تدّعي الصدق وتأمر الناس به.
والصدق في الكلام هو ممّا أوصى به الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، وتواصَوا به في
ما بينهم. فقد ورد عن عمرو بن أبي المقدام أنّه قال: قال لي الإمام الباقر عليه
السلام في أول دخلة دخلتُ عليه: "تعلّموا الصدق قبل الحديث"(1). وعليه، فمَن
لا يضمن صدق حديثه فليمتنع عن الحديث. وورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:
"قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوصيك، يا علي، في نفسك بخصال، اللّهم
أعِنه، الأولى: الصدق، ولا يخرج من فيك كذبة أبداً"(2).
ولكن، مع الأسف، قد يبرِّر الإنسان لنفسه الكذب؛ ظنّاً منه أنّ فيه نجاته، كي يهرب
من تحمُّل مسؤوليّة أفعاله، ويفوته أنّه بعد الكذب هذا، وإن حصّل النجاة الآنيّة،
لكنّه سيعيش دائماً تحت الخوف من إمكانيّة افتضاح أمره. وإذا افتضح أمره كانت
النتيجة كارثيّة. فعلينا بالصدق على الدوام. فقد ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله
عليه وآله وسلم: "تحرّوا الصدق، فإن رأيتم فيه مهلكة فإنّ فيه النجاة"(3).
كما ويعتبر الصدق في الكلام من أسباب قَبول الأعمال وزكاتها، فقد ورد عن الإمام
الصادق عليه السلام قوله: "مَن صَدَقَ لسانُه زكا عمله"(4).
2- الصدق في العمل: لقد ذمّ الله سبحانه وتعالى المؤمنين الذين يُخالف عملهم
معتقدَهم؛ بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ
تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (الصف: 2-3).
كذلك، فإنّ مَن يتصدّى لأداء مهمّةٍ ما أو تكليفٍ ما، أو يُستأجَر لأدائه، لا بدّ
له من أن يأتي بهذا العمل على طبق ما اتّفق عليه مع الطرف الآخر، وإلّا اعتُبر
كاذباً في مقام العمل. وهذا النوع من الكذب شائعٌ جدّاً في المجتمع؛ إذ قلّما تجد
ممّن يتعامل مع أهل المصالح مَن لا يشتكي من هذا النوع من الكذب، لا بل حتّى بعض
أهل المصالح أنفسهم لا يتبرّأون منه، بل يعتبرونه من ضروريّات المصلحة!
ومن المؤكّد، وَفقاً لقاعدة "المؤمنون عند شروطهم"، أنّ حلّيّة ما يتقاضاه أهل
المصالح من الناس محلّ إشكال؛ لأنّ عدم تطابق أقوال هؤلاء مع أفعالهم يُعتبر خيانةً
للأمانة. ولذا، نرى أنّ الكثير من الروايات قد ربط الصدق بأداء الأمانة. فعن الإمام
الصادق عليه السلام أنّه قال: "أربعٌ مَن كُنَّ فيه كَمُل إيمانه، وإن كان قرنُه
إلى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك، وهي: الصدق، وأداء الأمانة، والحياء، وحُسن
الخُلُق"(5). ومن جميل ما ورد في هذا الباب قول الإمام الباقر عليه السلام:
"وتزيّن لله عزّ وجلّ بالصدق في الأعمال"(6).
3- الصدق في المعتقَد: على المؤمن أن يكون صادقاً مع نفسه، وليس فقط مع
الآخرين. وهذا له علاقة بإيمان الإنسان ومعتقده؛ إذ تعتبر المجتمعات أنّ أفعال
الإنسان وأقواله تنبع من معتقده وتوجُّهه في الحياة؛ فإنّ القول والعمل يحكيان فكر
الإنسان ومعتقده. فلو حصل تغاير واختلاف ما بين القول والفعل والعقيدة، يصبح ذلك
الإنسان مذموماً بين الناس، وقد يُعتبر خائناً في نظرهم؛ إذ إنّ الصدق في العقيدة
عادةً ما يدفع الإنسانُ الغالي والنفيس في سبيله؛ حتّى إنّه قد يصل إلى بذل النفس
والولد في ذلك.
* مطابقة العمل للمعتقد
اعتبر الله سبحانه في كتابه الكريم مَن يُظهر عملاً صالحاً، ولكنّه لا يعبّر عن
إيمانٍ قلبيٍّ ويقينٍ بذلك الإيمان، كاذباً، كالمنافق الذي يُظهر الإيمان ويبطن
الكفر. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (النساء: 38).
* يكذبون على أربابهم
قد يصل مرض الكذب في المعتقد ببعض الناس إلى أنّهم لا يكتفون بالكذب في مجال
الاعتقاد بالله تعالى وعلاقتهم بالمؤمنين، بل إنّهم يكذبون حتّى على أوليائهم ومَن
يتّبعونهم حقّاً وصدقاً. وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه الكريم قائلاً:
﴿أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا
نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ
يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ (الحشر: 11).
* طوبى للصادقين
لقد أعدّ الله سبحانه للصادقين ما يفوق تصوّر الإنسان من نعيمٍ وثوابٍ في الآخرة؛
إذ إنّ العطاء من الله تعالى ثواباً لعباده مرجعُه التفضّل والتكرّم عليهم. وطالما
أنّه كذلك فلا حدّ أو مقدار لهذا العطاء؛ إذ عطاؤه سبحانه وتعالى غير مجذوذ. ومع
ذلك، وترغيباً للإنسان في التحلّي بهذه الخصلة، وطمأنةً له على مصير عمله، قال
تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ
أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ
جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الزمر: 33-34). ويفهم من الآية الكريمة أنّ
ثواب الصادقين هو ثواب المتّقين والمحسنين. والأعظم من ذلك أنّ لهم ما يشاؤون، ولا
يستطيع أن يحقِّق ما يشاؤه الإنسان إلّا الله سبحانه.
وقال سبحانه: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ
الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (المائدة: 119). وقد ورد في الروايات ثواب الصدق،
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "عليكم بالصدق فإنّه باب من
أبواب الجنّة"(7).
وورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "ألا فاصدقوا، فإنّ الله مع مَن
صدق"(8). فالصدق يوجب لصاحبه معيّة خاصّة له مع الله تعالى، وتشمله عناية خاصّة
وتوفيقات لا ينالها إلّا أهل الصدق. وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الصادق
لمُكرّم جليل، وإن الكاذب لمُهان ذليل"(9). وعنه عليه السلام: "الصادق على
شفا منجاة وكرامة، والكاذب على شرف مهواة ومهانة"(10). ومن هاتين الروايتين
يُفهم أمران:
- الأول: إنّ الكرامة والنجاة لأهل الصدق، والمذلّة والمهانة لأهل الكذب، في
الآخرة. فالصدق يأخذ صاحبه إلى الجنّة والرضوان، والكذب يدعو أهله إلى النار.
- الثاني: إنّ للصدق والكذب أثراً في الحياة الدنيا. فإذا أراد الإنسان أن
يكون مكرّماً، ومعزّزاً، وجليلاً فيها، فلا بدّ له من أن يتّخذ الصدق عَلَماً في
حياته، ونبراساً في سلوكه. وإنْ تسرّب الكذب إلى حياته، فلا مناص أمامه إلّا القبول
بالعيش مهاناً، وذليلاً، وعلى شفا حفرةٍ من النار.
ختاماً: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين صدقوا ما عاهدوا الله
عليه، وممّن يصدق قولاً وعملاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
1- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج12، ص163.
2- (م.ن).
3- مستدرك الوسائل، الميرزا النّوريّ، ج8، ص457.
4- الكافي، الكلينيّ، ج2، ص104.
5- (م.ن)، ص99.
6- الوافي، الفيض الكاشانيّ، ج26، ص261.
7- كنز العمّال، المتّقي الهنديّ، ج3، ص346.
8- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج69، ص386.
9- عيون الحكم والمواعظ، اللّيثي الواسطيّ، ص143.
10- نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ عليه السلام، ص117.