الشيخ سامر توفيق عجميّ(*)
"إنّ الله تبارك وتعالى على الإناث أرأف منه على الذكور"(1).
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ذكرنا في العدد السابق أنّ العدالة التربويّة من أهمّ الأصول التي ينبغي أن تحكُم
علاقة المربّي بالمتربّي. ويتأكّد هذا الأصل في خطّ علاقة المربّي بأطفاله من حيث
الجنس (الذكورة والأنوثة) بمعنى أن لا يُوجِد المربّي مناخاً متمايزاً إيجاباً
لصالح الطفل وسلباً ضدّ الطفلة، فهذا النمط من التعامل داخل الأسرة هو من ترسّبات
الذهنيّة الجاهليّة وموروثاتها.
* إذا بُشِّر بالأنثى
يقول تعالى: ﴿إذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ
بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ
مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي
التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (النحل: 59).
يرسم لنا القرآنُ الكريم في هذه الآية تصويراً بلاغيّاً غاية في الجمال لبيان
كيفيّة استقبال المولود الأنثى من قِبَل بعض العرب الجاهليين، حيث كان يسودّ وجه
الأب أو الأمّ عند معرفة أحدهما أنّ المولود أنثى، وسبب اسوداد الوجه ما يعيشه
القلب من الكآبة والهمّ والغمّ، وتؤدي به هذه الحالة إلى الاختباء عن الناس خجلاً،
ويعيش في وجدانه المظلم صراع الخيارات فيتحيّر في اتخاذ القرار، هل يدع الطفلة حيّة
مع ما في ذلك من عارٍ عليه ومذلّة له -من وجهة نظره- أم يدفنها حيّة في التراب؟!
وكان بعضهم يحسم خياره بوأد ابنته: ﴿وَإِذَا
الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ (التكوير: 8-9)،
والبعض الآخر يتّخذ القرار بإبقائها حيّة.
* آخر ما سمعته منها: يا أبتاه!
لكن ممّا يشقّ الصدر حزناً أيضاً أنّه بعد أن يُربيّها حتى تُصبح أمام عينيه فتاة
بالغة، يُقرّر تحت نداء الجاهلية أنْ يدفنها.
عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام، قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، فقال: إنّي قد ولدت بنتاً، وربّيتها، حتّى إذا بلَغت فألبستُها وحلّيتُها، ثم
جئت بها إلى قليب (أي بئر) فدفعتها في جوفه، وكان آخر ما سمعت منها وهي تقول: يا
أبتاه..."(2).
وبقيت هذه النظرة متجذّرة في حياة المسلمين في عهد النبيّ وأئمّة أهل البيت صلوات
الله عليهم، حيث كان يُنظر إلى الفتاة بعين السخط والبغض.
* خانتني إذ ولدت بنتاً
وممّا جاء في الأحاديث والروايات عن هذه المشكلة، أنّ النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بُشّر بابنة، فنظر في وجوه أصحابه، فرأى الكراهة فيهم(3).
كما أنّ رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم "فأُخبر بمولود أصابه، فتغيّر
وجه الرجل. فقال له النبي: "ما لك؟"، فقال: خير.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "قُلْ".
قال الرجل: خرجتُ والمرأة تمخض، فأُخبرتُ أنّها ولدت جارية (بنتاً)..."(4).
ونقل إبراهيم الكرخي عن بعضهم قال: "تزوّجت بالمدينة، فقال لي أبو عبد الله عليه
السلام: "كيف رأيتَ؟"،
قلتُ: ما رأى رجل من خير في امرأة إلّا وقد رأيته فيها، ولكن خانَتني!
فقال عليه السلام: "وما هو؟".
قلت: ولدت جارية (بنتاً)..."(5).
* كيف كافح الإسلام هذه الظاهرة؟
وما زلنا نلمس ترسّبات هذه الظاهرة الجاهلية في حياة المسلمين اليوم، في الوقت الذي
كافح الإسلام فيه هذه الظاهرة بالأشكال والأساليب كافّة.
وفي هذا السياق، نذكر بعض الخطوات التي توضح لنا كيف كافح الإسلام هذه الظاهرة في
الجانب السلبيّ، ورفع من شأن الأنثى في الجانب الإيجابي.
أولاً: شدّد الإسلام على تحريم وأْد البنات وقتْلهنّ تحت أيّ ذريعة أو حجّة.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "... ونهى [الله عزّ وجلّ] عن عقوق
الأمّهات ووأد البنات..."(6).
ثانياً: نهى الإسلام نهياً شديداً عن كراهة البنات أو تمنّي موتهنّ... إلخ.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تكرهوا البنات، فإنّهنّ المؤنَسات
الغاليات"(7).
وعن جارود، قال: قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: إنّ لي بنات، فقال عليه السلام:
"لعلّك تتمنّى موتهنّ، أما إنّك إنْ تمنّيت موتهنّ فمتن لم تُؤجر ولقيتَ الله عزّ
وجلّ يوم تلقاه وأنت عاصٍ"(8).
ثالثاً: أكّد الإسلام على أنّ وجود البنات في البيت بركة ورحمة، عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من بيت فيه البنات إلّا نزلت كلّ يوم عليه اثنتا
عشرة بركة ورحمة من السماء، ولا تنقطع زيارة الملائكة من ذلك البيت، يكتبون لأبيهم
كلّ يوم وليلة عبادة سنة"(9).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "خير أولادكم البنات"(10).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم الولد البنات، ملطِّفات مؤنسات ممرِّضات
مبديات"(11).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "رحم الله أبا البنات، البنات مباركـــات
محبّبات، والبنون مبشّرات، وهنّ الباقيات الصالحات"(12).
رابعاً: حفّز الإسلام على النظر إلى البنات بميزان الآخرة بأنّهنّ حسنات
يُثيب الله تعالى عليهنّ بخلاف الصبيان فإنّهم نعمة يُحاسب الله تعالى عليها، وأنّ
البنات حجاب من النار يوم القيامة، وأنّ الإنسان بسبب الإحسان إليهنّ وإعالتهنّ
يُدخل الجنّة... إلخ.
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "منْ كنّ له ثلاث بنات فصبر على لأوائهنّ
وضرّائهنّ وسرائهنّ كُنّ له حجاباً يوم القيامة"(13).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "مَن كان له أختان أو بنتان فأحسن إليهما،
كُنتُ أنا وهو في الجنّة كهاتَين، وأشار بإصبعيه السبّابة والوسطى"(14).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "البنات حسنات، والبنون نعمة، فإنّما يُثاب على
الحسنات، ويُسأل عن النعمة"(15).
خامساً: دعا الإسلام إلى تجنّب تقديم الطفل الذكر وتمييزه عن الأنثى وإيثاره
عليها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "مَن كان له أنثى فلم
يُبدِها(16)، ولم يُهنها، ولم يؤثر ولده عليها، أدخله الله الجنّة"(17).
وكذا العكس أيضاً، فعن سعد بن سعد الأشعري قال: سألتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام...،
فقلتُ: جعلتُ فداك، الرجل يكون بناته أحبّ إليه من بنيه؟ قال الرضا عليه السلام:
"البنات والبنون في ذلك سواء، إنّما هو بقدر ما يُنزلهم الله عزّ وجلّ منه"(18).
* متى تقدّم البنات على البنين؟
لأنّ طبيعة البنت عاطفيّة أكثر من الصبي، فهي تحتاج إلى تعامل ملؤه الرأفة والرحمة
والرقّة والحنان بنحو أشدّ. وهذا ما نُلاحظه في الرؤية التربوية الإسلاميّة، حيث
أدّبنا المنهاج النبوي على تقديم البنات على البنين في خطّ العلاقة الوجدانيّة.
عن الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: إنّ الله تبارك وتعالى على الإناث أرأف منه على الذكور، وما من رجل يُدخل
فرحة على امرأة بينه وبينها حُرمة إلّا فرَّحه الله تعالى يوم القيامة"(19).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن دخل السوق فاشترى تُحفة فحملها إلى عياله،
كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور، فإنّه من فرّح ابنة
فكأنّما أعتق رقبة من ولد إسماعيل، ومن أقرّ عين ابن فكأنّما بكى من خشية الله، ومن
بكى من خشية الله أدخله جنّات النعيم"(20)
(*) مدير مركز التحديات الثقافية المعاصرة، ومؤلف وباحث تربوي، وأستاذ في
جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالمية فرع لبنان.
1- الكافي، الكليني، ج6، ص6.
2- م.ن، ج2، ص163.
3- من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج3، ص481، ح4693.
4- الكافي، (م. س)، ج6، ص6.
5- (م. ن)، ص5.
6- جامع أحاديث الشيعة، البروجردي، ج8، ص452.
7- المعجم الكبير، الطبراني، سليمان بن أحمد، ج17، ص310.
8- الكافي، (م. س).
9- جامع أحاديث الشيعة، (م.س)، ج21، ص303.
10- مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص219.
11- جامع أحاديث الشيعة، (م. س)، ص301.
12- (م. ن).
13- الخصال، الصدوق، ص174.
14 - عوالي اللآلي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج1، ص253.
15- الكافي، (م. س)، ج6، ح8.
16- أي لم يُظهرها، والمراد بذلك سترها والمحافظة عليها.
17- عوالي اللآلي، (م. س)، ج1، ص181.
18- الكافي، (م. س)، ج6، ص51. أي الحبّ إنّما يكون بقدر ما يجعل الله لهم المنزلة
من قلبه.
19- الكافي، (م. س)، ج6، ص6.
20-الأمالي، الصدوق، ص673.