في البحث عن المنهج الأقوم في السير إلى الله تعالى اهتدينا إلى قضية أساسية وهي أن
الإسلام بكل أبعاده وبروحه وشموليته هو الذي يمثل الطريق إلى السعادة والسبيل إلى
الكمال.ولكي يستفيد السالك من الإسلام كما ينبغي عليه أن يتوجه دائماً إلى هذه
القضية. فمن الخطأ أن نتصور وجود طريق إلى الله داخل الإسلام، بل الإسلام بكله هو
هذا الطريق. ولقد اختصر أمير المؤمنين عليه السلام منهج الإسلام وروحه بقوله: "إن
الإسلام هو التسليم". فالسلوك الحقيقي هو تحقق روح التسليم التام والتعبد المحض
لأوامر الله وإراداته سبحانه.. هذه الأوامر الإلهية والإرادة الربانية قد ظهرت في
دين الإسلام وشريعته.
وبعد هذا البيان، ليس على الإنسان إلا أن يتعبّد بمنهج هذا الدين الحقّ ويلتزم
بطريقته ليكون سالكاً إلى أعلى درجات القرب والوصال.
ولكن، تبرز مشكلة كبرى هنا،
وهي: معرفة الإسلام بشكل صحيح. فهذا الدين قد تعرض لتحريفات كثيرة وتأويلات مختلفة.
ثم أنه وفي أحسن الحالات لا يُقدم لنا بصورة شمولية وكاملة.. لذلك شرعنا منذ حلقات
عديدة في محاولة لتقديم الإسلام الأصيل. وهو بيان في - الوقت نفسه - لمنهاج السير
والسلوك كما أسلفنا.
إن مجرد امتلاك تصور واضح وأصيل عن الإسلام كافٍ لمعرفة المنهج الحق في السير
والسلوك. والسالك يكفيه أن يتعرف إلى برنامج الإسلام بشكل واضح ليكون طريقاً معبّداً
له.
إننا إذا انطلقنا من الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام حيث يقول:
"وهل الدين إلا الحب في الله". ورجعنا إلى حديث الثقلين، وتدبرنا فيهما جيداً، يلفت
نظرنا أمر في غاية الأهمية كأنه يقول لنا: إن المنهج العملي للإسلام يمكن اختصاره
بالمحبة. وسر هذا الأمر يعلم من خلال معرفة حقيقة الحب ودوره في حياة الإنسان.
فمن الثابت المشهور أن الأعمال هي التي تقوّم شخصية الإنسان. وكل فرد سيحاسب يوم
القيامة على أساس أعماله:
﴿فمن يعمل مثقال ذرة شراً يره ومن يعمل مثقال ذرة خيراً
يره﴾. ونحن إذا أردنا أن ننظر إلى جوهر العمل نجد أن المقوِّم له هو الرغبة
القلبية بنتيجته. أي أن أي عمل - مهما كان - لا يتحقق إلا إذا مر بهذه المراحل:
المرحلة الأولى: تصور العمل وتصور نتيجته.
المرحلة الثانية: التصديق بنتيجته.
المرحلة الثالثة: إذا حصل التصديق بنتيجته يتعلق القلب به.
المرحلة الرابعة: تقوم الأعضاء والجوارح بتنفيذه.
فالمرحلة الأولى
ترتبط بقوة الخيال والمعلومات الموجودة عند الإنسان وتجاربه وما شاكل. أما المرحلة
الثانية فإنها تنطلق من العقل الذي يستطيع أن يميز بين الشر والخير والمصالح
والمفاسد، حيث يعطي النتيجة تبعاً لقوته وشدة إعماله.
وفي المرحلة الثالثة إذاتعلق قلب الإنسان بالنتيجة، وتغلب هذا التعلق على كل
تعلق آخر، فإنه يأمر الأعضاء والجوارح بتنفيذ ما يريد. وفي المرحلة الرابعة لا تملك
الأعضاء إلا أن تنفّذ الأمر بالتفصيل.
فهذه المراحل الأربع لصدور الأعمال من البشر لا مفر من عبورها عند كل مخلوق مخير.
وأهم الملاحظات التي نستخلصها من هذا التأمل هي أن للقلب دوراً أساسياً ومركزياً في
أداء الأعمال. وقد ورد في الحديث النبوي الشريف "أن القلب أمير البدن". والعقل لا
يملك أكثر من تقديم النصح والتمييز بين الضار والنافع. فلو فرضنا أن القلب كان
متعلقاً
بشيء ما وأعطى العقل نصيحة تخالف هذا الشيء فإن القلب لن يعتني بنصيحة العقل، ما
يعني أن أعمال الإنسان هنا ستخالف عقله. وهذا هو معنى ضياع العقل، لأن العقل سيضعف
على أثر هذه المخالفة ليغادر مملكة الإنسان شيئاً فشيئاً، قال الله تعالى:
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ
قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ
آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون﴾.
ونحن إذا عرفنا خطورة القلب في ما يتعلق بمصير الإنسان بهذا البيان نصبح مستعدين
لفهم الآية الشريفة:
﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى
اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾
.
وندرك جيداً لماذا أجاب الإمام الباقر عليه السلام ذلك السائل الذي سأله عن نفسه
وكان لا يعلم أهو من أهل الخير أم لا، بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أردت أن
تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك".
فهذه الشريعة الإلهية التي هي أعظم الشرائع جاءت لتضع عن الناس إصرهم والأغلال التي
كانت عليهم على جميع المستويات: الفكرية والنفسية والاجتماعية وغيرها. لقد كانت
فتحاً محمدياً عظيماً يسّر للناس سبل الوصول إلى أعلى درجات الكمال بأسهل طريق
وأسمح وسيلة. وكان من ضمن هذا الفتح اكتشاف دور القلب في حياة الإنسان بعد أن كان
مجهولاً، والتركيز عليه بعد أن كان مغفولاً. فنحن إذا كنا نسمع خطاب الأنبياء
السابقين كما حكى الله عنهم في كتابه المجيد:
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِين﴾َ
.
فإن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر أن يقول:
﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ
إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾.
ذلك لأن شريعة الإسلامي التي كشفت بالكشف التام المحمدي قامت على أساس المودّة
والمحبة:
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن
لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ
اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين﴾َ
وكانت فاقدة للقيمة والاعتبار عند رب العالمين بدون الولاية التي تتضمن المحبة:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ
لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
﴾
فأصبح هذا الدين مرضياً
عند الله تعالى وصار سبيلاً إليه لكل سالك يسلك طريق الحق:
﴿قُلْ
مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ
سَبِيلًا﴾
ومن جملة الفوائد العظيمة لفتح هذا الطريق: التمييز جيداً بين الأخلاق اليونانية
التي تقوم على أساس العقل وتجعل للعقل دوراً مركزياً، وبين السير والسلوك الذي يقوم
على أساس القلب ويجعل له دوراً أساسياً. وهذا القلب أعلى رتبة من العقل، فلا شك إذاً
في أن نتائج مثل هذا الكشف ستكون أعلى أيضاً. كما أن أتباع ومحبي أهل البيت قد
وصلوا إلى درجات أعلى بكثير مما وصل إليه أتباع الأنبياء السابقين (على نبينا
وآله وعليهم أفضل الصلاة والتسليم).
لقد أراد الإسلام لأتباعه أن يصلوا إلى مرتبة لم يصل إليها أحد من قبل، ففتح لهم
طريق السلوك بالقلب، أي بالمحبة. ولقد عبّر العارفون عن هذه الحقيقة بقولهم أن
السالك إما أن يكون محباً (مريداً) أو محبوباً (مراداً) وما سواهما
مدّع مخدوع.
وأشار الإمام الخميني (سلام
الله عليه) إلى هذا المعنى بقوله: "وما دامت جذور حب الدنيا في قلب السالك فلا
يحصل فيه أثر من محبة الله ولا يهتدي طريقاً إلى منزل المقصد والمقصود، وما دام
للسالك في قلبه بقايا من هذه المحبة لم يكن سيره إلى الله بل يكون سيره إلى النفس
وإلى الدنيا وإلى الشيطان...".
وقد شرح العلامة الشهيد المطهري هذه المعاني بطريقة رائعة مع شواهد واسعة في كتابه
"الجاذبية والدافعية في شخصية أمير المؤمنين عليه االسلام. وشرح الفرق ما
بين الأخلاق اليونانية التي تعتمد على العقل والسير والسلوك الذي يتركز حول القلب.
فالأخلاق تنظر إلى الوجود المعنوي عند الإنسان بالنظرة العقلية فتخرج بنتيجة تشبّه
فيها هذا الإنسان ببيت متسخ بالرذائل وعلى صاحبه أن ينظفه (التخلية) ثم يزينه
بالفضائل (التحلية). فهي جامدة وتقدم برنامجاً عملياً للتخلية والتحلية يعتمد على
العقل وحركته.
ولا ينبغي أن يُتوهم من
هذا الكلام أن هناك تضاداً بين العقل والقلب. وإنما المشكلة تكمن في التوقف عند
العقل وإهمال القلب. ما يعني بقاء مجموعة كبيرة من الأمراض في وجود الإنسان، وهذا
ما سيمنعه من الوصول إلى الغاية النهائية والكمال المطلوب. بالإضافة إلى عجز
الإنسان الذي يحصر المعنويات في دائرة العقل عن حل أدنى المشاكل الأخلاقية.
لقد جاء الإسلام بمفاهيم وبرنامج تكون التقوى هي النقطة المركزية فيه. والتقوى هي
صفة للقلب وملكة فيه. واعتبر أنه لا فوز ولا فلاح بدون التقوى، فقال عزّ من قائل:
﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى
الْقُلُوب﴾ِ
ثم قال سبحانه:
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا
قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ
لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِين﴾ِ.
وأشار جل جلاله إلى المقام الشامخ الذي يصله الإنسان:
﴿إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ﴾.
وحيث أصبح القلب في المركز والقطب في الإسلام. فإن التقوى الحقيقية لا يمكن أن تنبع
إلا منه. وانبعاث التقوى من القلب يكون بدفق تيار الحب منه وسريان العشق إلى مملكة
وجود الإنسان. فالخير أي خير ينبع من القلب. قال الإمام الباقر عليه السلام:
"إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك فإذا كان يحب أهل طاعة الله
ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك. وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل
معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب".
وباكتشاف هذه النقطة
المركزية دارت جميع تعاليم الإسلام حولها. فإننا نجد صلاح إيمان المرء في مدى حبه
لله ولرسوله وأهل بيته عليه الصلاة والسلام، وكذلك مدى صلاح أعمالنا في انبعاثها من
هذا الحب. ولكن تجدر الإشارة هنا إلى مسألة وهي أن هذه العلامة التي قدمها لنا
الإمام الباقر عليه السلام لمعرفة صحة سلوكنا لا يمكن اكتشافها في الآخرين، وإنما
هي لكل فرد على حدة. لأن ادعاء المحبة أمر سهل، وكذلك إظهارها منن خلال إنشاد الشعر
والمدائح والتباكي وأمثال هذه المظاهر. فمثل هذه المظاهر لا تعتبر معياراً لقياس
صحة سلوك الآخرين بل المعيار الأوحد هو الشريعة والالتزام بأحكامها (كما بيّنا
سابقاً). ولكن إذا أردنا أن نعلم ما في نفوسنا، فنحن قد أعطينا معياراً سهلاً
يسيراً. لأن إدراك وجود الحب في النفس من أيسر الأمور على الإنسان مع نفسه بشرط أن
لا يخدع نفسه.
فهذا كشف وليس اختراعاً. وهو حقيقة وليس اعتباراً. وسواء شئنا أم أبينا سيبقى القلب
مركز صدور الأوامر إلى البدن وأعضائه. وسيبقى معيار سلامة النفس أو فسادها.
فإذا شاهدنا مثل هذا
التأكيد للمحبة في الإسلام فهذا يعود إلى الدور الكبير الذي تؤديه وتتركه في مصير
الإنسان النهائي. لأن الله سبحانه قد خلق الإنسان وجعل فيه وديعة إلهية هي الفطرة
التي يمكن ا ختصارها بكلمة الحب أو التعلق. وجميع الميول الفطرية التي تشكل الهوية
الحقيقية للإنسان تجتمع تحت عنوان الحب.
وبدون هذا النداء الإلهي المستودع في نفوس البشر لا يتحقق السفر إلى الله مطلقاً.
لقد جعل الله جلّت آلاؤه في قلب كل مخلوق توجهاً فطرياً وعشقاً جِبِلِّيّاً للكمال
المطلق. (وهذا أصل مبرهن عليه في محله، وقد تحدث عنه الإمام الخميني في العديد
من المواضع وخصوصاً في وصيته لابنه السيد أحمد). وهذا العشق هو الذي يوجه صاحبه
نحو المعشوق، وهو المسؤول عن كل الأعمال وجميع النشاطات التي يقوم بها. إننا إذا
نظرنا إلى تاريخ البشرية بكل حضاراتها ومدنياتها وجلنا في الأعمال العظيمة التي
تركها الناس في شتى المجالات نتلمّس وراء هذه الأعمال الهائلة هذا السعي الحثيث
والدائم لبلوغ الكمال اللامتناهي. ولولا هذا العشق لأضحى هذا الإنسان مخلوقاً خاملاً
لا معنى لحياته. وقد أشار الحكماء العظام في كتبهم وأبحاثهم إلى هذا الأصل وكتبوا
حوله الكير لإثبات وجود هذا العشق الفطري.
وخلاصة الكلام أن الحب هو
المسؤول الأوحد عن جميع النشاطات والأعمال. وما لم يتعلق القلب بشيء لا ينفِّذ إلا
إذا كان مجبراً عليه.
فإذا جئنا الآن لمعرفة حقيقة الحب نجد أنه عبارة عن التعلق الخاص والانجذاب المخصوص
بين المرء وكماله، كما بيّن العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان ووافقه العلماء
والحكماء وعلماء النفس بالإضافة إلى الوجدان الحي والواعي.
إن الإنسان لا يمكن أن يحب شيئاً لا يرى فيه كماله، كما أنه ينفر من كل نقص ويكرهه.
فهو إذا أحب امرأة فذلك لأنه يرى فيها كمالاً له. وهو يحب المال لأنه مظهر القدرة
التي يطلبها ككمال لنفسه. وهكذا، تسري هذه القاعدة في جميع الأمور.
المشكلة تكمن دائماً في تحديد هذا الكمال.
هل قام هذا الإنسان أو ذاك بتحديد وتشخيص الكمال الحقيقي؟
أكثر الناس لم يدركوا كمالهم المطلوب، ووقعوا في أسر الكمال الموهوم. وإن أكثر
انحرافات البشر تعود إلى هذه النقطة وهي أنهم أثناء طلبهم للكمال الحقيقي وقعوا في
وهم الكمال المحدود والموهوم، وكان هذا بالطبع نتيجة طبيعية لمسلكهم المنحرف وسوء
أعمالهم.
ولكن الذي يرجع إلى فطرته يدرك أن الكمال الحقيقي واحد وهو الكمال المطلق وهو الله
سبحانه وتعالى. وأن الإنسان لا يعشق إلا هذا الكمال ولا يريد غيره. وقد أشار العارف
ابن العربي إلى هذه القضية بقوله: "ما أحب أحد إلا خالقه، ولكنه تعالى احتجب تحت
اسم سعاد وهند وزينب".
مشكلة الإنسان المسكين أنه يظن الكمال في الشهوة الجنسية وفي الاتصال بالطرف الآخر،
فيصبح نتيجة هذا الظن محجوباً عن الكمال الحقيقي أي عن الله خالقه ورازقه والمفيض
بالكمال المطلق على كل الوجود.
ماذا فعل الأنبياء لحل هذه المشكلة وإخراج الناس من ظلمات الوهم؟ أن أمير المؤمنين
عليه السلام يصور لنا طريقة عمل الأنبياء بقوله: "إن الله ابتعثهم ليستأدوهم ميثاق
فطرته، وليثيروا لهم دفائن العقول".
كان عمل الأنبياء إذاً
يتركز بالدرجة الأولى على أمرين:
- إحياء القطرة العاشقة للكمال المطلق، أي لربها وخالقها.
- توجيه عقول الناس بعد إحيائها إلى هذا الأصل.
وعندما يلتفت الإنسان إلى الكمال الحقيقي ويستيقن منه ويستمع إلى النداءات المنبعثة
من فطرته، سيجد نفسه مشدودة إلى ذلك الكمال المطلق.
فخلاصة القول: جاء الأنبياء والأولياء لتفعيل دور الحب للكمال المطلق في وجود
الإنسان ولم يكن عندهم عمل آخر. وكان الإسلام بكله عبارة عن هذا البرنامج الذي يريد
أن يوقظ هذا الحب في نفس الإنسان.
فللحب دور مركزي في منهاج الإسلام للسير إلى الله تعالى.