ولاء إبراهيم حمود
لم أتردد لحظةً، بعد نجاحي، في "صف الفلسفة"، بدراسة
اللغة العربيَّة وآدابها. لقد أحببتها منذ طفولتي، تأثراً بأمِّي، التي أحبَّت
القرآن، وتلته على مسامعي، من محفوظات سهراتِ زمنها العائليَّة، فأحببت عظيمين: "القرآن
ولغته"، وجمعتهما في اختصاصي قراراً حراً، وتابعته حتَّى آخر القوافي، وأعظم الآيات
وأجمل الكلمات. وعلّمت أولادي، وتركتهم يختارون ما يريدون لغَدِهم على أساس الميل
والقدرات. وأزعم أننَّي أحسنت الاختيار والتوجيه. لقد كنت ذاتي يرافقني ظلُّ أمُّي.
التي كانت تردد على مسامعي "لا ميراث كالأدب.." (1) فالعلم نور والمعرفة سلاح. ومنذ
أكثر من ثلاثين سنة، قال لي أستاذٌ(2) فاضلٌ، علّمني شيئاً من الرياضيَّات "العزيزة"
على قدراتي: "ليس هناك من اختصاص سيئ، انظروا إلى عطاءات المتخصِّصين، لا إلى
الاختصاص نفسه". وقد كان ولا يزال – والحق يقال – متفِّوقاً في اختصاصه وسلوكيَّاته
علماً وأدباً وإنساناً، "فاستجار" به تحقيقي، شخصيَّة علميَّة بامتياز بعد أن حملت
إليه "عيِّنات" من تجارب مختلفة، فصاغ مقولته عنواناً يؤكِّد لي اليوم، رؤية أمي،
وإليكم التفاصيل:
* الاختصاصات معارف متكاملة
تَعتَبر "بارعة وهبي" أنَّ تفوّقها في اللغة الفرنسية دفعها إلى التخصّص في آدابها.
وتربط هذا التفوّق بجذور طفولتها الأولى، فقد درست حتَّى المرحلة الثانوية في مدارس
"الأخوة المريميين"، وهنا لا تنفي "بارعة" تأثير الأهل ورؤيتهم في هذا المجال،
لأنهم انطلقوا في اختيارهم للمدارس التي تُعنى بتدريس هذه اللغة من نظرتهم إلى
الناطقين بها نظرة تقدير واحترام لهذا المقياس "الحضاري" الوحيد في نظرهم: لأنَّه
يرتبط "بالأم الحنون" للبنان سابقاً، فرنسا. ولا تنكر بارعة أهمية باقي الاختصاصات،
فكلها معارف مفيدة تتكامل فيما بينها، المهم أنها الآن مُدَرِّسةٌ ناجحةٌ لهذه
المادة، تذلّل أمام طلابها صعوباتها.
* القدرة والميل
تنفي "شذا حمدون" أن تكون قد خضعت في اختيارها لأي عوامل اجتماعية. فهي بكلِّ بساطة،
فشلت في امتحان دخول إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية، بعد أن كانت قد درست ملياً
موضوع سوق العمل المفتوح أمام خريِّجي هذا الاختصاص، فاتَّجهت إلى دراسة الحقوق.
وبعد أن أضاعت سنتين في السنة الدراسيَّة الأولى دون جدوى، تحوَّلت إلى دراسة اللغة
العربيَّة وآدابها دون امتحان دخول، فعلامتها 14/20 في الثانوية العامة. وقد
تخرَّجت هذا العام، وهي اليوم تعترف بأنَّها أخطأت منذ البداية حساباتها، عندما
حذفت منها عاملين: "القدرة والميل" لحساب قانون العرض والطلب المعتمد على أسعار
الحصص المتفاوتة بين اختصاص وآخر، وتعتبر أن هذا الأمر ظلمٌ ومشكلةٌ برسم الدولة.
وعن رضاها على اختصاصها اليوم تبتسم معلنة: "ما أحلى الرجوع إليه".
* الاستفادة وحسن التوظيف في الحياة
تميِّز "أمجاد حمادي" خرِّيجة إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية منذ أكثر من عشر
سنوات بين إرادة الإنسان ومشيئة القدر. وترى أنَّ الحياة هي التي تفرض علينا
إرادتها، وفي ظنِّنا أنَّنا من يختار، فهي مثلاً، أنهت القسم الثانوي بعلامة كاملة
في مادتي الطبيعيات (20/20) (الكيمياء والبيولوجي) وكانت ترغب بدراسة علم الأدوية
وتركيبها "الصيدلة"، ولكن غياب هذا الاختصاص عن الجامعة اللبنانية في حينها، وغياب
القدرة الماديَّة لدى أهلها للدراسة في المعاهد الخاصَّة كاليسوعية، جعلها ترضى
بنجاحها في امتحان الدخول في إدارة الأعمال وتتخرَّج من اختصاص لم ترغبه أبداً.
ولكنَّها اليوم، تحسن توظيفه في إدارة حياتها وتنظيم شؤون أولادها، فهم برأيها أجمل
"إنجاز علمي بحت". تختتم أمجاد عرض تجربتها بالقول: "ربَّما كان للأثرياء فرصة
اختيار أوسع ولكن لنا نحن أيضاً فرصة الاستفادة ممَّا أتاحته لنا الحياة وتوظيفه في
تحسينها". فتلويحة يد ولدها وابتسامته وهو ينفصل عنها في يومه الدِّراسي الأول تعني
أنَّها أحسنت إعداده لهذه اللحظة. وقد ارتكزت في هذا الإعداد على عدَّة علوم ومعارف
جمعتها من المطالعات، متجاوزة في اكتسابها حدود أيِّ اختصاص أعاقتها عنه يوماً
قدرات ماديَّة سعت اليوم لتوفيرها لأولادها، لتكسبهم هدف التعلّم الحقيقي: بناء
الإنسان في داخلهم، لا إضاعة الوقت في محاكمة مرفوضة للقيمة الاجتماعيَّة لمستوى أو
نوع هذا الاختصاص أو ذاك.
* الميل للاختصاص ومهنته أساس الاختيار
وقفت الدكتورة "نهى إسماعيل إبراهيم"، بعد إنهائها الشهادة الثانوية بتفوِّق علمي،
أمام خيارين: الإعلام، ولها فيه تجربة سابقة ناجحة، والعلوم (البيولوجي)، ولها
بمعلِّمة هذه المادة منذ صفِّ البريفيه حتى الترمينال، صلة إنسانية راقية، دفعتها
للتفوّق في دراستها، لذلك وحباً بهذه المُدَرِّسة الفاضلة، رجّحت كفة العلوم على
الإعلام مفضلة عليه التعليم الذي أحبته حباً بها وطلباً لفائدة أعمّ لمجتمعها حيث
تتواصل عبره مع أهم شرائحه: طلابه اليوم وبُناتِه غداً. واليوم وبعد إنهائها شهادة
الدكتوراه في مادَّة الطبيعيات الجزيئيَّة BiOLOgie MOLecuLaiRe من جامعات فرنسا
وبدرجة امتياز، تباشر د. نهى إبراهيم التدريس في الجامعة اللبنانية. وهي تنصح
طلابها وسواهم، باعتبار الميل لأيِّ اختصاص والمهنة التي يؤمِّنها، أساساً في
الاختيار، "لأنَّه لا نجاح دون حبّ ينبع منه اختيارنا الذي يجب أن يُساهم في بناء
مجتمع الإنسان". لا تقيم د. إبراهيم وزناً لمحاكمة الاختصاصات وفق القِيَم
الاجتماعيَّة القديمة ولا لتصنيفها الماديِّ. ولكلِّ اختصاص دوره في استكمال بناء
حضارة الإنسان. والمشكلة تكمن في بعض الأنظمة والقوانين التي تبالغ في تقدير اختصاص
على حساب آخر. المهم أن نحسن الاستفادة مما ندرس وندرِّس. وتعلن د. نهى رضاها التامّ
عما اختارت ووصلت إليه، وتتمنَّى على الدولة اللبنانية دعم حركة البحث العلمي في كل
الاختصاصات وخاصة في البيولوجيا الجزيئية، لتعم الفائدة مستقبل أبنائنا بعد أن تكون
قد أمنت لهم حاضرهم وما يتطلبَّه من وسائل للمعرفة.
* الثقافة المرتكزة على الماديات
إذاً، بين تأثير الأهل ورؤيتهم والمجتمع وحاجاته، والمشاعر القديمة لمعلِّمات
الدراسة الأولى، وقوانين العرض والطلب التي ترفع اختصاصاً وتخفض آخر، يقف أبناؤنا
على مفترق، لا يخلو اجتيازه من صعوبة، يخفِّفها اليوم الدكتور محمد حسين مهدي بقوله
– بعد أن استعاد مقولته السابقة لي – إنَّ النظرة الدونية هي نتاج نقص معيب في
الثقافة المرتكزة على الماديَّات التي ينتجها أي اختصاص. يرفض الدكتور مهدي كلمة "نظرة
دونية" ويستبدلها بكلمة "مختلفة". وهذه النظرة نادراً ما كانت موجودة في الماضي،
فالاختصاص الأدبيّ كان يحتلُّ المكانة نفسها لأيِّ اختصاص علمي، والذي وحده لا يكفي
لبناء المجتمعات. ويؤكِّد على ضرورة التقدُّم في الجانب الإنسانيّ الذي توجده دراسة
الآداب والفنون وسائر العلوم الإنسانيَّة، وإلا فلا حضارة للإنسان، بل للآلة. لقد
اختار مادَّة الرياضيات للدِّراسة في السبعينات حيث تزايد الاهتمام بالاختصاصات
العلميَّة. وكان يرغب فعلاً بدراسة الهندسة التي لم تكن موجودة في الجامعة
اللبنانية، وعلامته فيها تخوّله دخول اليسوعيَّة دون امتحان، لكنَّه مرةً أخرى "القسط"
الباهظ الذي أعاقه عنها فسعى فيما بعد -وعبر اختصاصه- إلى أن يُقاربها، وذلك عبر
فتح قنوات عديدة بينها وبين الرياضيات فنجح وفتح مع اختصاصات أخرى أيضاً قنوات فتحت
أمام خريجي الرياضيَّات آفاقاً وظيفية غير التدريس مثل الرياضيَّات الماليَّة
وتحديد سياسة المخاطر في العمل المصرفي. كان الأهل يرغبون له بدراسة الطب أو
المحاماة ولكنهم لم يفرضوها عليه، وهو اليوم ينصح طلابه كما نصح أبناءه الذين
تخرجوا والذين يقفون على بوابات تخرجهم، بالقول: "اختاروا الاختصاص الذي تجدون فيه
أنفسكم، وتابعوا فيه حتَّى النهاية. كونوا أنتم بكلِّ ميولكم وتطلّعاتكم، ولا
تكونوا نحن، فلنا زمننا ولكم زمنكم الذي يحتاج كزمننا لكل الاختصاصات".
* لا معجزات إبداعيّة اليوم
ويدعو الدكتور مهدي الأهل إلى مغادرة أفق "الأنا" الضيق، حرصاً على نجاح أبنائهم في
تشكيل شخصيَّاتهم، لا تكرار شخصيات ذويهم. ويذكر في هذا المجال أنَّه سمع يوماً عام
1978 حواراً بين نقيب المحامين العراقيين وولده الذي كان يرغب بدراسة الطب وبعد جدل
طويل أنهى الوالد الحوار بقوله: "ليس من مشكلة الآن أدرس محاماة، وفيما بعد تدرس
طب". يؤكِّد د. مهدي على ضرورة النظر في محتوى الشهادة ومصدرها، وقيمتها الحقيقية
الكامنة في غنى المعرفة أياً كانت، ويرى أن الأمور قد اختلفت الآن في ظل تطور وسائل
الإعلام وشبكة الاتِّصالات العالمية (الانترنت) التي جعلت الكون (قرية كونيَّة)
وأتاحت لتلميذ اليوم تحصيل ثقافة سهلة لم يحصل عليها تلميذ الأمس، الذي كان أكثر
اندفاعاً تماماً كأستاذه خلافاً لأستاذ اليوم. ويشدد الدكتور محمد حسين مهدي على
دور السلطات ويدعوها إلى ضبط القرارات التربويَّة، لا خنقها، وينصح بإيجاد لجانٍ في
كل جامعة تتولى شرح أهميَّة كلِّ اختصاص لطلابنا، وفائدته لمجتمعنا، على غرار
الجامعات الأخرى في العالم، كي يُحسن طلابنا رسم ملامح مستقبلهم، لتحسين ملامح
مجتمعهم العلمية والإنسانية في آن وهنا مكمن التفوق في التعلم وفي حسن اختيار أي
اختصاص.
* تنوع المعارف لبناء الإنسان
إذاً، كلها معارف تشكل في تنوُّعها قوّةً عظيمة لمجتمعنا وبناء إنسانه، ناجحاً في
توظيف علومه، لخدمة الحياة وتطويرها، كي نليق بها وتليق بنا، لأنّها تركض مع
الراكضين إلى غدهم وتتجاهل الرَّاكدين عند حدود العقد البالية القديمة. ولنسع في
كلِّ علومنا لتحقيق الهدف الذي ارتضاه لنا خالقنا حين أوجدنا بإرادته سبحانه على
ضفافها، وهو نجاحنا في إدارتها عزيزةً كريمةً. ولئن قال الفرنسيون قديماً: "ما من
مهنة حقيرة، إنّما هناك أناسٌ حقيرون"، فإنَّ تحقيقي هذا يقول: (ما من اختصاص فاشل
أو "دون"، إنَّما هناك كسالى وفاشلون وهم في ظل شهاداتهم -إذا عزلوها عن حركة
الحياة- راسبون أو... "دون").
1- عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص536.
2- الدكتور محمد حسين مهدي، رئيس قسم الرياضيات في الجامعة اللبنانية لعشرات
السنوات. منسِّق مادة العلوم في المدرسة الحربية. مشرف إعداد رسائل ماجستير
ودكتوراه في الجامعة اللبنانية وفي جامعات باريس التي عاد منها حديثاً بعد أن أمضى
فيها عدة سنوات أستاذاً زائراً.