تحقيق: زهراء عودي شكر
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "لَأَنْ
يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أحبلهُ، ثم يأتي الجبل، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ من حَطَبٍ عَلَى
ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَه، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ
يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ"(1). في الحديث، تبدو الإشارة
واضحة إلى ضرورة عمل المرء لتلبية احتياجاته الحياتية من جهة، وللاندماج في المجتمع
العمليّ من جهة أخرى. ومهما كان العمل مهنة أو حرفة أو وظيفة فلا يخلو من القوانين
والأخلاقيّات التي تنظّمه، وبالتالي تسمو به إلى فضاءات التوسّع والتقدّم.
* المهن في عيون الناس
تحت مُسمّى الأعمال الحرّة تندرج معظم المهن والحرف. ولكن ما نريد تخصيصه في هذا
الموضوع هو الحرف وبعض المهن التي لا يحتاج إتقانها إلى الدراسة، بل عادةً ما
يكتسبها العامل من خلال النظر والتدريب، ومن هذه المهن مثلاً: الخياطة، الحلاقة،
التمديدات الكهربائية، الميكانيك، الحدادة، والنجارة...
لقد كانت هذه الحِرف والمهن البسيطة تشكّل حيزاً كبيراً من الأعمال، وكانت تعدّ
مصادر رزق مقبولة بين الناس، ولكن مع التقدّم العلميّ والتطوّر التقنيّ
والتكنولوجيّ وحيازة الاختصاصات العلميّة، تغيّرت النظرة إلى هذه الأعمال، و"باتت
لا تليق بكلّ الفئات الاجتماعية". وهنا يطرح السؤال نفسه: ماذا يعمل من لا شهادة له
أو حتّى من لم يجد عملاً في مجال دراسته؟ هل يقف مكتوف اليدين أم أنّه يعمل بما
تيسّر؟ وماذا عن هذه المهن في حدّ ذاتها، هل يمكن الاستغناء عنها وتجاهلها؟ ففي
أبسط الأحوال عند حصول عطل في صنبور المياه مثلاً، مَن يُصلحه إذا لم يكن لأعمال
الصيانة هذه مكان في المجتمع؟
* مِهنٌ شريفة
عندما طرحنا هذه الأسئلة وغيرها، اختلفت آراء الناس، فكانت نظرة آلاء (خرّيجة
بيولوجيّ)، إلى هذه الحرف والمهن سلبية: "لا أتقبّل العمل في هذه المهن أبداً،
وأستغرب كيف يقبل الشباب امتهان هذه الأعمال في ظلّ التطوّر والتقدّم العلميّ؛ إذ
من المفترض أن يكونوا أصحاب أعمال أو موظفين في مؤسسات ومصانع"، متمسكةً برأيها
تلمّح إلى أنّها لا يمكن أن ترتبط بالزواج بمن يعمل في هذه المجالات أبداً.
أما الأستاذ محسن (موظّف في بنك)، فكان له رأيٌ مختلف؛ إذ يقول: "إنّ هذه الحرف
والأعمال تتكامل مع منظومة المهن والوظائف، ومن المستحيل الاستغناء عنها؛ فهي مهن
شريفة لا عيب في امتهانها، بل العيب بالتكاسل وعدم العمل تكبّراً واستعلاءً".
ويضيف: "ربّما يكون المردود الماديّ لهذه المهن أقلّ من رواتب الوظائف الأخرى، ولكن
الكدّ والمثابرة والكفاءة، أمور تجعل من عمّال هذه المهن أصحاب مصالح، وتفتح لهم
أبواب رزق واسعة".
ولمحمد تجربة خاصّة مع أصحاب هذه المهن يرويها قائلاً: "خلال بناء منزلي تعاملت مع
الكثير من العمّال وأصحاب المصالح، اتّفقت مع القليل منهم، وصرفت الكثير لأسباب
متعدّدة، منها: لجوء بعضهم إلى الغشّ أحياناً، أو عدم كفاءتهم، أو أسعارهم
المضاعفة، أو لعدم التزامهم بوعودهم ومواعيد إنجازهم الأعمال، وأحياناً لسوء
تصرّفاتهم ومعاملتهم،.. إن بعض العُمّال ينقصهم بعض القيم الأخلاقية التي تحتّم
عليهم تقديم عملهم على أتمّ وجه".
* أخلاقيات المهن
ليست المهن الحرّة والحرف كسائر الوظائف والمهن التي تنظّمها القوانين وترعاها
الأنظمة الداخلية، إنّما هي مهن تميّزها المعاملة الحسنة والقيم الخلقيّة للعامل
كما الكفاءة، وبالتالي فهي موسومة بأخلاقيات إن انسلخت عنها، تفقد سوقها وزبائنها،
وكذلك مصداقيتها. ومن أبرز هذه الأخلاقيات:
1- إتقان العمل وإجادته: التي تعتبر من أبرز القيم الخُلقية في مجال العمل
الحرفيّ والمهنيّ، فمن الضروريّ أن يشعر العامل بالمسؤولية تجاه العمل الموكل إليه
وبذلك يحسّن رعايته وتطويره والإسراع في إنجازه. وقد لفت ديننا الحنيف إلى هذا
الموضوع وشجّع عليه، فقال الإمام علي عليه السلام: "رحم الله امرءاً عمل عملاً
فأتقنه"(2). ولا شكّ في أن إتقان العمل يزيد من الإنتاج وينمّي الاقتصاد، وهذا
يَعُود بالنَّفع والفائدة على العامل نفسه، وعلى ربِّ العمل، وعلى المجتمع كذلك.
2- الأمانة والإخلاص: هما من الأخلاق والدين، وتجليات في العامل عندما يحرص على
وقت العمل، لإنجاز وأداء الواجب بأكمل وجه دون غشّ. وفي المحافظة على أدوات العمل
من معدّات وأجهزة. ويعدّ كتمان أسرار العمل من الأمانة خصوصاً وأنّ أكثر هذه المهن
يقتضي دخول بيوت الناس، والاطّلاع على بعض مسائلهم العائلية.
3- حُسن التعامل مع الزبائن والناس: وهذا أبرز ما يجذب الزبون إلى العامل، بعكس
القسوة والجفاء اللذين يحجّمان المصالح وغالباً ما يفشلانها.
4- الالتزام بمعايير المهنة: وهي عوامل نجاح العامل، منها: الالتزام بأوقات
العمل والمحافظة عليها، وعدم الانشغال في أثناء وقت العمل بأمور ومصالح شخصيَّة لا
علاقة لها بالعمل، طاعة المعلّم أو المسؤول، وكذلك التعاون بين العمّال لتحقيق
الهدف والفائدة وكذلك النجاح.
* الحرف الحرّة والقانون
عند الحديث عن مهن حرّة، يُخيّل لكثيرين أنّ هذا المجال من الأعمال يسوده عدم
الانضباط والنظام والرقابة، والحرّية التامّة في العمل، إضافة إلى سؤال يتبادر عن
حقوقهم وواجباتهم، ما هي؟ وأين؟
تقول المحامية "تمام نور الدين": "إنّ الحرف من المهن الأساسية التي كان ولا يزال
يعتاش قسم كبير من الناس منها، فهي تحتاج إلى لمسات فنية راقية وذوق وإبداع،
بالتالي هي ليست بالأعمال البسيطة والسهلة".
وبالنسبة إلى أنظمتها، تقول السيدة تمام: "لقد تمّ وضع أنظمة وضوابط قانونية
بالفعل، لبعض هذه الأعمال بشكلٍ خاصّ ضمن نصوص قانون العمل اللبنانيّ، على سبيل
المثال: المرسوم رقم 7380 الصادر في 22/5/1967م، الذي ينصّ على تنظيم الحماية
والوقاية والسلامة في العمل في الورش". فيما يتمّ تحديث وتعديل القرارات التي تصدر
عن وزير العمل كلّ عام، في إطار الأعمال والمهن الواجب حصرها باللبنانيين، ومن
ضمنها: الخياطة والحدادة والبناء...
أما ضابطة حقوقهم وواجباتهم، فهناك نقابات خاصة كنقابة عمّال صناعة الخياطة، ونقابة
عمّال البناء والأخشاب التي تسعى بدورها إلى المحافظة على حقوق العمال طبقاً
للقانون اللبنانيّ، إضافةً إلى ملاحقة كلّ مخالفة لهذا القانون، تصدر من صاحب العمل
أو العاملين لديه. وبالتالي فإنّ الضابط الذي ينظّم هذه المهن والحرف هو قانون
العمل اللبنانيّ سواء بنصّه الخاص أو ببنوده العامة التي تتناول علاقة العامل
والأجير بربّ العمل وتنظّمها وتبيّن حقوق وواجبات كلّ منهم".
وبما يخصّ المعايير الأخلاقية تعود "نور الدين" لتؤكّد أن: "من الضروريّ أن يتمتّع
أصحاب المهن الحرّة وعمالها بالأدبيات الأساس؛ كالصدق والإخلاص والأمانة والإتقان،
وعدم غشّ الزبون في السعر أو في البضاعة المستخدمة، ما يعكس الثقة المتبادلة بين
العامل والزبون، وأيضاً الالتزام بالقوانين المرعيّة الإجراء؛ كقانون العمل والعرف
المتّبع الذي يرعى تلك الأعمال لكي يأخذ كلّ ذي حقّ حقه".
وخير الختام، حديث للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حين صافح صلى الله عليه وآله
وسلم رجلاً وجد يده خشنة من آثار العمل، فقال له: "هذه يد يحبّها الله ورسوله
(...) هذه يدٌ محرّمة على النار"(3).
(1) رياض الصالحين، النووي، ص292
(2) شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، الحاكم الحسكاني، ج1، ص5.
(3) في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية، ج4، ص 294.