تحقيق: زهراء عودي شكر
في إطلالة تاريخيّة على مهنة المحاماة، نجد أنّ ظهورها
يرجع إلى عهد سحيق؛ فقد وُجدت عند المصريّين القدماء جماعة من أهل العلم يسدون
المشورة للمتخاصمين. وكذا عند السومريين، وفي عهد حمورابي كان لكلّ خصم، في خصومة
مدنيّة أو جنائيّة، حقّ توكيل غيره للمطالبة بحقّه أو براءته.
* المحاماة رسالة
المحاماة، رسالة نصرة الحقّ، والدفاع عن المظلوم واستقصاء العدل. ولعلّ نشوء
المحاماة بعيداً عن سلطات الدولة، وانطلاقها من واجب الدفاع وتقديم المساعدة
القانونيّة والقضائيّة، وتطلّبها المعرفة والعلم والتأهيل الجيّد، حدّد مفهومها
كمهنة حرّة مستقلة، وحدّد غرضها ودورها كأداة للدفاع عن المحتاج.
وربطاً باللغة، كلمة "محاماة" كلمة أصيلة في اللغة العربيّة وهي مشتقّة من فعل حمى.
وحماية المتّهم، وحقوقه الشرعيّة هي في صلب مهنة المحامي.
* نظرة الشارع المقدّس
وبالنسبة إلى النظرة الشرعيّة لمهنة المحاماة، وفيما يخصّ المستوى العمليّ، يقول
المسؤول الثقافيّ لحزب الله في البقاع السيّد فيصل شكر: "إنّ هذه المهنة لا تستند
إلّا إلى المعايير الفكرية للرسالة السماويّة لنبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم
ولأهل البيت عليهم السلام. فمن الطبيعيّ أن يكون المحامي مدافعاً عن المظلوم في وجه
الظالم، وفي وجه من يتعدّى على حقوقه. وإذا كانت المحاماة دفاعاً عن المظلوم
وإثباتاً لحقّه المأخوذ عنوةً، فهي من أجلّ العبادات والطاعات التي يُتقرّب بها إلى
الله تعالى. ومن زاوية أخرى، الدفاع عن حقوق الناس هو من أوجب الواجبات الشرعيّة،
خاصّةً عندما ننظر إلى كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهو يتحدّث إلى الإمامين
الحسن والحسين عليهما السلام، قائلاً: "وكونا للظالم
خصماً وللمظلوم عوناً"، يعني دافعا عن المظلوم وادفعا عنه ظلم الظالم.
فالمحاماة، من هذه الزاوية، هي عبادة واجبة، وطاعة مفروضة على من يعرف حدود الظلم
فيدفع الظلم عن المظلوم".
إذاً، المحاماة كسائر المهن، بل أكثر، إذ يحيط بها سياج من الالتزامات،
والأخلاقيات، والقواعد القانونيّة وحتّى الدينيّة التي تنظّمها وتحكم علاقاتها
بالجهات التي يتعامل معها المحامي، أثناء قيامه بمهامه، إن كان مع الزملاء أو
الموكّلين.
وتتمثّل الالتزامات بالاستقامة، والنزاهة، والاعتدال، واحترام الزمالة،
والأخلاقيّات، وبالوفاء، والأمانة، والاستقلاليّة، وبالمحافظة على الشرف، والعفّة،
والنزاهة، والإخلاص. أما القواعد، فتتمثّل بالبنود القانونيّة والدستوريّة.
* أخلاقيات المهنة
للمحاماة آداب خاصة تعرف في عالم القضاء بـ"آداب المحاماة"، أمّا عرفاً فهي تعرف
بـ"الأخلاقيات". وبينما كانت هذه الآداب، في السابق، عرفاً وتقليداً وأدباً، أصبحت
اليوم خليطاً من تلك الأعراف والتقاليد، مضافاً إليها القوانين التي وجب سَنُّها مع
تطوّر الزمن، وتغيّر المفاهيم، وتحلّل بعض القيم الأخلاقيّة. ولعلّ من أبرز الأمور
التي تتربّع على عرش الأخلاقيات "استقلالية المحامي"، التي يُقصد بها، بوجه عامّ،
قيام المحامين بأداء دورهم متحرّرين من أيّ ضغط، والقيام بواجباتهم تجاه موكّليهم
بنزاهة دون تدخّل السلطتين "التنفيذيّة والتشريعيّة"، وحتّى "القضائيّة".
واستقلاليّة المحامي، بالمقابل، ليست امتيازاً يتيح له تبرير الخروج على القانون أو
التعدّي على القضاء، حتّى في إطار خِدمته لمصالح موكّله. فالاستقلاليّة، أداة حماية
استوجبتها طبيعة الترابط العضويّ بين مهمّة القاضي والمحامي، في إقامة العدل.
* الاستقلاليّة في التشريعات الدوليّة
ونظراً إلى ضرورة الاستقلالية في المجال العدليّ والقانونيّ، أولت التشريعات
الدوليّة والإقليميّة أهميّة للأمر، فمثلاً، أوجبت المادة 11 من الإعلان العالميّ
لحقوق الإنسان توفير سائر الضمانات اللازمة للدفاع عن المتّهم في محاكمة عادلة،
وكرَّست ذات المبدأ، وإعلان أثينا الصادر عن اللجنة الدوليّة للحقوقيّين حول سيادة
القانون عام 1955، أكّد على استقلال مهنة المحاماة، وتحرّرها من التدخّل الخارجيّ،
لضمان احترام سيادة القانون.
إلى ذلك، تتجلّى أخلاقيّات المحامي بالنزاهة في ممارسته لمهنته، وكذلك بالصدق
وبالحياديّة، وبالالتزام بالقانون، والخضوع للضمير، والاعتدال، والأدب في عرض
الموقف، وفي القول، والمرافعة والبعد عن التحيّز والتعصّب، ليس في ممارسته لمهنته
فحسب، بل في سائر شؤون حياته، لأنّ أول مقوّمات المحامي الالتزام الأخلاقيّ الرفيع
الذي يضعه في انسجام مع دوره العدليّ. وقد نصّت جميع التشريعات المنظمة لمهنة
المحاماة على وجوب توفّر مثل هذه الصفات في المحامي، بل اعتبرتها شرطاً لمزاولة
المهنة.
وتكمُن شجاعة المحامي في التوفيق بين أداء واجبه وبين نجاته من ورطة الموقف،
والانحياز لطرف على حساب آخر، تبعاً لرشوةٍ ما أو مكافأةٍ أو وعدٍ بمنصبٍ أو شابه.
وكذلك، تظهر الشجاعة في مواجهة الخصم الذي قد يكون متنفِّذاً في المجتمع.
كما ويتعيّن على المحامي ألّا يتقيّد بواجبه تلقاء موكّله فقط، وإنما عليه التقيّد
بواجبات المحاماة الأخرى التي لا محلّ فيها للخصومات الشخصيّة.
* شهادة أرباب المهنة
في ظلّ الحديث عن مهنة المحاماة، توقّفنا مع الأستاذ المحامي إبراهيم عواضة،
لنستشرف أكثر آفاقها، فكانت البداية تاريخية بعض الشيء حيث قال: "إنّ هذه المهنة
انبثقت من قوانين وضعيّة لاتينيّة أبرزها الرومانيّ والفرنسيّ. ففي المجتمعات
الرومانية، أحاط أباطرة الرومان هذه المهنة المهمّة، بكثير من التكريم والتمجيد،
وأصبحوا ينظرون بعين الارتياب إليها، لأنها تضفي على أصحابها مكانةً وجاهاً ونفوذاً
في الإمبراطوريّة. وفي فرنسا بدأ تنظيم هذه المهنة في عهد الملك لويس التاسع الذي
فرض على المحامين قيوداً شديدة محتِّماً عليهم ألّا يتقدّموا للقضاء إلّا بقضايا
سليمة وأن يبتعدوا في دفاعهم عن الاعتداء. ولاحقاً، نشأت بذور المحاماة في الإسلام
مع نشوء القضاء وفرض أحكام الشريعة على الجميع. وظلّ نظام الوكالة، على ما هو عليه،
من غير تنظيم إلى عهد محمد علي باشا والي مصر في العهد العثمانيّ، الذي فكّر في
ترتيب مجالس العدالة".
أما بالنسبة إلى لبنان، "ففي تاريخ 19/12/1919 تشكّلت أوّل لجنة إداريّة لجمعيّة
المحامين، مؤلّفة من رئيس يعيّنه الحاكم الإداريّ، ومن أربعة أعضاء تنتخبهم
الجمعيّة، وعيّن الأستاذ وديع الدوماني أول رئيس للّجنة الإدارية، وبذلك يكون
الأستاذ الدوماني النقيب الأول لنقابة المحامين في بيروت".
* قواعد وقيود المحاماة
ويرى الأستاذ إبراهيم أن آداب المهنة تنبع من ذات الشخص الذي امتهنها قبل أن يلتزم
بمضمون قانون مهنة المحاماة. "بالطبع هناك قانون مهنة في كلّ نقابة لإخضاع المحامي
إلى الالتزام بمواده وعدم الإخلال بآدابها. فهناك قواعد وقيود وضعت عام 1344م ولم
تفقد قيمتها إلى اليوم، منها:
1. أن يؤدّي المحامي يميناً بأن يقوم برسالته بإخلاص وذمّة.
2. ألّا يقبل قضية يعرف بطلان الحقّ فيها.
3. أن يتجنّب الإدلاء ببيانات كاذبة.
4. ألّا يحاول الحصول من موكّليه على مبالغ بأسباب مصطنعة".
* المحاماة باب للعدالة
تتوجّب على المحامي أمور عدّة تجاه موكّله كما الخصم، تتلخّص بأن يؤدّي دور الوكالة
وفقاً لمضمونها وأن يحافظ على سريّة العمل وأن لا يفشي أسراره، وأن لا يتعاطى مع
خصمه، أو يكون له صداقة معه أو يستقبله في مكتبه، أو يتّفق مع الخصم على أيّ عمل
يلحق الضرر بموكّله، وأن لا يتصرّف بأيّ تصرفّ إلّا بعلم موكّله ويُعلمه بكل شاردة
وواردة.
ولأنّ الحياة لا تستقيم دون قانون وتشريعات تضمن حماية الفرد والمؤسّسات، ولأن
الدفاع عن النفس يحتاج، في معظم الأحيان، إلى مساعدة متمرّس وصاحب خبرة، وُجِدت
مهنة المحاماة كمهنة جليلة لها قدسيّتها ورسالتها السامية، وكمهنة حرّة تشارك
السلطة القضائيّة في تحقيق العدالة، ومجدّداً لحماية أغلى ما لدى الإنسان: حياته،
وماله، وحريته، وكرامته، وعرضه، وحماية حقوق الأفراد وحقوق الأمّة.