في القرن الحادي والعشرين، ليس سهلاً أن تقرأ. ليس سهلاً أن تُنهي كتاباً ضخماً
خالياً من الصّور الملوّنة، في مدّة زمنيّة قصيرة، أو أنْ تملك موسوعة منوّعة من
الكتب المختلفة.. وقد قرأتها كلّها، بدافع "المعرفة". نعم، قلّة من هم عطشى هذا
"الماء" الذين ما زالوا أوفياء للورقة والكلمة، في ظلّ انتشار أجهزة الذّكاء
الاصطناعيّ.
* صمود الورق والتحدّي الرقميّ
اليوم، معضلة العصر صمود الورق في وجه التّحدّي الرقميّ الّذي تمرّ به البلاد، في
وجه التّحدّي المعيشيّ في عالمنا العربيّ بالتّحديد، الذي يتحكّم بالمسار الحياتيّ
للفرد حتّى الثّقافيّ منه. كثيرة هي الظّروف المحيطة الّتي تُعنى بـ"حقيقة"
الارتباط بالكتاب، أبرزها يقع على عاتق التّمرّد الذي يعيشه "العالم السّريع"!
عن سرّ عبقريّته يجيب "إسحاق نيوتن" قائلاً: "لقد وقفت على أكتاف العمالقة الذين
جاؤوا قبلي"؛ أي بقراءته للكتب. الكتاب قبل أيّ شيء هو "تذكرة عبور".. صاحبها يشبه
مَن ضلّ طريقاً في رحلة استكشاف شيّقة، وفي يده مصباح! الارتباط بالكتاب يعني
اللّهث وراء عالم المعرفة.
* البداية كانت عام 1956م
في لبنان البلد الغنيّ بموارده الثّقافيّة وتنوّعه الفكريّ، يقام معرض سنويّ للكتاب
انطلق عام 1956م، وساهم في إعطاء "بيروت" صفة عاصمة الكتاب لكونه المعرض العربيّ
الأوّل في العالم العربيّ. ثمّ أُضيفت ألقابٌ عديدة إلى سجّل "بيروت" الثّقافيّ
فحازت لقب "عاصمة الثّقافة العربيّة" عام 1999م، وبيروت "عاصمة عالميّة للكتاب" عام
2009م.
في 30 تشرين الثاني من أواخر العام المنصرم 2017م تمّ افتتاح هذا المعرض، والذي
شهد، بشكل يوميّ، سلسلة من التواقيع لعدد من الكتّاب والصّحافيّين والأدباء، حتّى
إغلاق أبوابه في 13 كانون الأوّل. وكانت فرصة مناسبة لمعرفة مدى الإقبال على الكتاب
وقياس نسبة المتغيّرات الحاصلة في هذا الميدان من خلال استطلاعات الرّأي لدى
الزّائرين عامّة، مضافاً إلى عدد من المقابلات التي أجريناها مع أصحاب دور النّشر
في المعرض منها: دار "ميم" و"المعارف الإسلامية الثقافية"، ودار "نينوى" في دمشق -
سوريا، لنخلص في نهاية الجولة لمقابلة مسؤول الإعلام في المعرض الأستاذ "أكرم
حمدان".
* كم تأثّر الكتاب بالتطوّر التكنولوجيّ؟
طرحنا عدداً من الأسئلة على طلّاب الدراسات العليا، مضافاً إلى طلّاب المدارس
والعامّة من النّاس محورها علاقتهم مع الكتاب، والنّوع الّذي يستهويهم قراءته.
وأبدوا رأيهم حول إشكاليّة تأثّر الكتاب بالتّطوّر التّكنولوجيّ الحاصل وانعكاسه
على موضوع المطالعة.
"سلمى" (طالبة في الجامعة اللّبنانيّة - كليّة الإعلام) من ضمن المشاركين في
فعاليّات المعرض، تعتبر أنّ الكتاب يُعدّ نافذة لتطوير الفكر الإنسانيّ واكتساب
المعرفة. وتشير سلمى إلى أنّ الرّغبة في القراءة غالباً ما تكون حاضرة، على عكس
القدرة على الممارسة الفعليّة، وهذا يعود إلى سوء تنظيم الوقت في أغلب الأحيان،
"مضافاً إلى أنّ التطوّر التّقنيّ الحاصل صار ذريعة للتّهرب من الكتاب الورقيّ
بحجّة توفّر المعلومات على الشّبكة الواسعة والتي يمكن الوصول إليها عبر الشّاشة
الصّغيرة –بغضّ النّظر عن حجم الشّوائب الّتي تكمن في هذه المواقع– حيث أصبحت مواقع
التّواصل الاجتماعيّ مرجعاً في نقل المعلومات، الصحيحة منها والمغلوطة، وصارت تحتلّ
المرتبة الأولى كمصدر لاكتساب المعرفة والمطالعة والتّسلية".
أمّا "جواد" (طالب دراسات عُليا في الجامعة الّلبنانيّة – كليّة الهندسة) فيجيب عند
سؤاله عن العلاقة مع الكتاب فيقول إنّها "سيّئة جدّاً"! ويعتبر أنّه "لا يجد وقتاً
للقراءة"، وهو يكتفي بنظرة سريعة على شبكة الإنترنت في ما يتعلقّ باختصاصه الجامعيّ
فقط.
"بتول ومحمّد" والدان لـ"علي الرّضا" (7 سنوات)، وهما يهتمّان بتخصيص أوقات محدّدة
لولدهما لقراءة القرآن الكريم والقصص المتنوّعة. وهذا ضمن أجواء يعملان عليها لزرع
ثقافة القراءة في "علي الرضا" بعيداً عن عالم التّكنولوجيا؛ إذ تقول بتول:
"التّكنولوجيا لا تتعارض مع مبدأ المطالعة.. نعم هذه الوسائل تشكّل تشتيتاً للمادّة
إنّما لا تلغيها. الأمر برمّته يعتمد على تنظيم الأولويّات، فالطّفل مرآة لأهله،
وهو يعمل على تقليد والديه بأصغر وأتفه التّفاصيل، لذا يكفي أن نقوم بالأمر أمام
الطفل حتّى يعتاد عليه".
"نيفين" (30 عاماً) (طالبة صحافة مرئيّة ومسموعة وهندسة لغويّة) تعتبر أنّ في
عالمنا "نوعيّة قرّاء جيّدة" مقارنة مع الغرب، إلّا أنّه لا يوجد استثمار لهذه
الطّبقة من القرّاء، فيصبح القارئ مستهلكاً للفكر أكثر ممّا هو منتج له، على عكس ما
كان في الماضي.. وتعتبر أن مردّ ذلك إلى تواتر الحروب والأزمات، والضّائقة
الاقتصاديّة والمعيشيّة التي تحيط بحياة الإنسان في العالم العربيّ وتحول دون
القيام بأبسط أشكال الحياة حتّى الثقافية منها، وتختم قائلة: "لذا لا داعي إلى أن
نجلد أنفسنا بقوّة".
* ميم، البديل الثّقافيّ للأطفال
يصف "محمّد مصطفى" المدير التّنفيذيّ لدار "ميم"، المشاركة في المعرض، بأنّ الدار
تعمل لأن تكون البديل الثقافيّ والتكنولوجيّ المناسب للأطفال.
فالدّار هي إحدى أذرع شركة "ميم" للإنتاج الثّقافيّ والإعلاميّ والفنّي الّذي يهتمّ
بنشر أدب الأطفال بأسلوب مميّز ومحتوى تربويّ هادف. يعمل فيها فنانون محترفون
وأدباء لتقديم الكمّ الأكبر من المتعة والقيمة للأولاد. لقد أخذت هذه الشّركة على
عاتقها مسؤوليّة صناعة الشّخصيّات النّموذجيّة للأطفال بعيداً عن العناوين
التّجاريّة، والتي يتوسّلها بعض المنتجين فتحمل إصداراتهم رسائل سيّئة بشكل مبطّن،
بعيدة كلّ البعد عن القيم التّربويّة. هذا الأمر دفع الشّركة إلى زيادة كمّ القيم
التّربويّة مضافاً إلى البعد الدّينيّ والعلاقة مع الله.
* أفلام، قصص، دمى، وتكنولوجيا .. وأيضاً!
"ميم" تعمل على الدّمج بين متطلّبات العصر الإلكترونيّة والمادّة الورقيّة؛ إذ إنّ
الكتاب نفسه له مرفقات عبر التّطبيق الإلكترونيّ "حكايا مهديّ" ويتمّ تحميله عبر
المتجر الإلكترونيّ ليقوم بـتحليل الرّمز عن الكتاب. كذلك في قصّة "المنقذ الخفيّ".
فعند تحليل الرّمز السّريّ للكتاب، يمكن مشاهدة القصّة على شكل فيلم "أنيمايشن" أو
كما يظهر "الفيل الملك" على سبيل المثال على شكل ( فيلم، قصص، وقريباً دمى). والأمر
نفسه في ما يتعلّق بـ"أميرة الرّوم".
"الدّار جديدة نسبيّاً، إنّما تحظى بانطلاقة قويّة!". يقول الأستاذ "محمد مصطفى"
حيث يوجد حوالي الـ 50 إصداراً، بين ألعاب وإصدارات متنوّعة وأخرى "متميّزة"، مثلاً
كتاب "خطوط خيالك" صُنّف الأوّل عربيّاً. محور الكتاب يدور حول مهارة التّشبيك
والرّسم بالخيطان والمسامير ويعمل على تنمية المهارة لدى الأطفال مضافاً إلى
النّشاط اليدويّ وتمتين بعض المفاهيم الرّياضيّة العلميّة. يختم الأستاذ محمّد
فيقول: "يجب استثمار الكتاب لأقصى أبعاد ممكنة! وهنا تكمن الصّعوبة، حيث يتمّ العمل
في الدار على معايير المحتوى بشكل "إبداعيّ مميّز" ومتكامل، ليشكّل كفاية للطّفل
على الصّعد كافّة".
* فقط في لبنان: مرحَباً بجميع الثّقافات
يقول "الأستاذ فارس" في دار "نينوى" إنّ المشاركة الجماهيريّة واسعة في المعرض سنة
بعد أخرى، إلّا أنّ بعض الظّروف الاقتصاديّة أو السّياسيّة قد تكون عاملاً يُعيق
عمليّة الشراء... ويلفت إلى أنّ المعرض بمنحه دور النّشر الحريّة الكاملة في إصدار
الكتب وإزالته العوائق الموجودة في أماكن أخرى، يرفع فعليّاً بذلك منسوب الثّقافة
في المجتمع. وهذا ما يتميّز به "لبنان"، وبالتّحديد في هذا المعرض، على عكس بعض
البلدان التي يتمّ فيها حظر إصدارات وكتب عديدة من المشاركة بسبب سياسات محدّدة.
وفي حديثنا مع المدير التنفيذيّ لدار المعارف الإسلاميّة الثقافيّة الأخ "حسن
حدرج"، أشار إلى رسالة الدار، التي تلتزم بنشر الفكر الإسلاميّ الأصيل، حيث كان لها
ما يقرب من 1000 إصدار، منها ثلاثون إصداراً جديداً. ولفت "حدرج" إلى أنّ كتب "أدب
الجبهة" كانت في صدارة الكتب التي باعتها الدار، وأنّ كتاب "الله والكون" للدكتور
"عبد الله زيعور"، تصدّر -بحسب إحصاء المعرض- الكتب الأكثر مبيعاً عن فئة "العلوم".
أمّا في ما يخصّ الإقبال في المعرض، فكان لافتاً الحضور المميّز لفئة الشباب.
* لا حظر أو رقابة على الكتاب الّذي يدخل معرض "الكتاب"
يؤكّد المسؤول الإعلاميّ في المعرض الأستاذ "أكرم حمدان" أنّ "الحريّة مطلقة" أمام
الكتب المشاركة في المعرض، أمّا الرّقابة على الكتب فتكون عادةً من الدّور نفسها.
وقد شارك هذه السّنة حوالي 160 داراً للنشر، بينها 65 داراً عربيّة (مصر – عمان –
سوريا – لبنان) أمّا الباقي فدور أجنبيّة وكانت أوكرانيا إحدى الدول المشاركة فيه
للمرة الأولى.
أمام إغراء الحداثة، أصبح ضروريّاً الهرب ولو دقائق معدودة لتخلو ببضع كلمات
ورقيّة.. تكتب خاطرة وجدانيّة، كما كنّا نفعل في مدارسنا الابتدائيّة، حتّى لا ننسى
فضل الكلمة الّتي قرأناها في كتاب عتيق..